قهر الكلب الأسود.. صراع مع الاكتئاب!!
< الكلب الأسود > هو الاسم الذي اطلقه ونستون تشرشل على نوبات الاكتئاب التي كان يعاني منها، كجزء من اصابته بمرض الاضطراب الوجداني ثنائي القطب Bipolar Affective Disorder, BAD ، وهذا الاضطراب ينتشر بكثرة في العالم، حيث تبلغ نسبة الاصابة به حوالي 2٪ تقريباً، وهو اضطراب عانى منه كثير من الفنانين والأدباء والسياسيين.
قامت قناة تلفزيونية استرالية بعمل فيلم وثائقي عن الاكتتاب بوجه خاص، مع التعرض لنوبات الاكتئاب التي يعاني منها بعض المرضى الذين يعانون من الاضطراب الوجداني ثنائي القطب.
البداية كانت بأحد الأطباء النفسيين الاستراليين يتساءل: لماذا أصيب ونستون تشرشل بالاكتئاب؟ لماذا أصيب البرت اينشتاين بالاكتئاب؟ لماذا أصيب تشارلز دارون بالاكتئاب؟ ثم يأتي التعليق من البرنامج بأن الاكتئاب واحد من أكثر الأمراض صعوبة على وجه الاطلاق، وانه في استراليا وحدها تم صرف أكثر من عشرة ملايين وصفة من أدوية مضادات الاكتئاب.. حيث يعاني مئات الآلاف من الاستراليين من مرض الاكتئاب.
يظهر رجل أعمال في الثالثة والستين من العمر، اسمه كين نيلسون، أصيب بالاكتئاب منذ كان في الأربعينات من عمره، ولكنه أصبح معاقاً تماماً خلال الثمان سنوات الأخيرة من حياته بالاكتئاب. يقول انه كان عندما يستيقظ من نومه، يود انه لم يستيقظ، وكان يقول لزوجته بأن يشعر بأنه في قاع بئر عميقة عليه أن يكافح ليخرج منها «الاصطلاح بوصف الشخص للاكتئاب، كأنه يعيش في بئر عميقة، ورد في وصف عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين للاكتئاب بهذا الوصف، حيث قالت زوجته سوزان طه حسين، في كتاب مذكراتها مع زوجها «معه» بأن الدكتور طه حسين، كان عندما يصاب بالاكتئاب يقول لها بأنه يشعر بأنه في قاع بئر عميقة.. وكانت تعرف بأنه إذا أصيب بهذه الحالة، فإنه يعتزل الناس ويرفض مقابلة أي شخص، ولا يأكل ولا يتكلم كثيراً، يزداد نحوله، ويصبح في حالة مزاجية لا يستطيع معها العمل أو الانتاج..!»، يقول السيد كين ويلسون بأنه لم يكن يعرف ما الذي جعله يصاب بهذا الشعور القاتل والمعوق..! الذي جعل منه، وهو رجل الأعمال الثري، الذي يمتلك كل ما يتمناه رجل ناجح في حياته، ولديه زوجة طيبة، محبة تساعده في كل شيء، ومعه يشعر بأنه إنسان عديم الفائدة، لم ينجز شيئاً في حياته وانه يفضل أن يموت على الحياة بهذه المشاعر التي أصبحت تجعله يشعر بأن لا شيء في الحياة يستحق أن يعيش المرء من أجله.! وأن أفضل أمر بالنسبة له هو أن يموت. فكّر بالانتحار لكنه تراجع خشية أن يسبب ذلك الألم لزوجته وأبنائه وبناته وأحفاده، وأن ينعكس ذلك سلبياً على حياتهم.
يقول كين ويلسون بأنه اقتنع أخيراً، وذهب لطبيب نفسي ووصف له علاج السيبرام بجرعة 40 ملجم «وهو أحد الأدوية المضادة للاكتئاب المعروفة بمثبطات السيروتونين، وتقريباً تعتبر الآن هذه الأدوية هي الأكثر انتشاراً في جميع أنحاء العالم لعلاج الاكتئاب، نظراً لفعاليتها، وكذلك قلة الأعراض الجانبية لهذه المجموعة من الأدوية، بعدها شعر بتحسن جيد جداً، وقال بأن الاكتئاب، رغم انه مرض عضال، قاتل، ومؤلم يؤثر على كل مناحي حياة الفرد، إلا انه مرض قابل للعلاج، وهذا ما جعله يشارك في هذا البرنامج ليعطي أملاً للأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب. بالاضافة إلى العلاج الدوائي الذي يتناوله السيد كين نيلسون، فإنه أيضاً تلقى علاجاً نفسياً، يعرف بالعلاج السلوكي المعرفي، وهو علاج نفسي، قلة الذين يمتلكون خبرة جيدة في هذا العلاج في استراليا «كما ذكر البرنامج»، وهو علاج مكلف لا يستطيع الكثيرون من الاستراليين أن يحصلوا عليه، نظراً، لأن تكاليفه باهظة، وان التأمين الصحي لا يغطيه.
فتاة أخرى اسمها كايت أوكارنو، ولدت لأسرة متوسطة الحال من الطبقة المستقرة مالياً واجتماعياً حيث كان والدها قاض في سدني، وكانت كايت الطفلة الوحيدة لعائلتها، وكانت والدتها سو اوكارنو «التي كانت والدتها تعاني من الاكتئاب، وهذا جعلها تشعر بالذنب لأنها نقلت الجينات الوراثية لمرض الاكتئاب لابنتها الوحيدة..!».
كانت كايت فتاة مرحة، محبوبة من زملائها في المدرسة الثانوية، لما تميزت به صفات حميدة. تقول والدتها بأن كايت في الستة أشهر الأخيرة من دراستها الثانوية بدأت تتغير.. حيث أصبحت نزقة، مزاجية، تميل إلى العزلة، وأصبحت ذات تصرفات غريبة ومزاج أكثر غرابة حيث أصبحت تتكلم كثيراً، وأحياناً تتكلم بأمور غاية في الغرابة، ولا يستطيع أحد فهم ما تقوله..!
بعد التحاقها بالجامعة بستة أشهر، وفي ليلة باردة من أغسطس «استراليا تقع في الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية لذلك شهر أغسطس يأتي في الشتاء عكس الجزء الشمالي من الكرة الأرضية»، جاءت كايت إلى منزل أهلها وهي في حالة سيئة عقلياً، حيث بدأت تعاني من ضلالات دينية، بأنها مكلفة بأن تقوم بأفعال معينة، وكانت مشوشة، ولا تعرف ماذا تقول، ولا طبيعة تصرفاتها، واضطر والدها إلى نقلها إلى مستشفى نورث شور الملكي بسدني، لكن كايت، رفضت، وقفزت من السيارة في الطريق إلى المستشفى، مما اضطر والدها إلى الاستعانة بالشرطة وسيارة إسعاف من المستشفى المذكور، ولكن كايت رفضت أن تركب معهم، ولكنها رفضت، حتى هددودها باستخدام العنف وإلباسها الثوب المجانين، فاستجابت وذهبت معهم إلى المستشفى الخاص بالأمراض العقلية والنفسية، حيث تم تشخيص حالتها على أن انها تعاني من اضطراب وجداني ثنائي القطب، وإنها تمر بحالة هوس، وتتميز هذه الحالة بكثرة الكلام، وكثرة الحركة، وقلة النوم، وجنون العظمة، حيث يظن البعض بأنهم يمتلكون قدرات خارقة، وبعضهم يدعي انه المسيح عيسى ابن مريم أو المهدي المنتظر. وقد كانت كايت واحدة من هؤلاء الأشخاص الذين يعانون من اضطراب ثنائي القطب، وهو مرض عضال يقود إلى تغيير في الشخصية، ويمر المريض به بحالات من الكآبة ونوبات من الهوس، وكلا الحالتين مؤلمتين. منذ تشخيص كايت بإصابتها بهذا الاضطراب والأسرة والأصدقاء يعيشون قلقاً، وخوفاً صعباً. فكايت لا تريد الاعتراف بأنها مصابة بهذا المرض الخطير، والذي يتطلب علاجا لفترات طويلة بصورة منتظمة. كايت رفضت أخذ الأدوية المضادة للذهان والتي يستخدمها المرضى المصابون بهذا المرض، وكذلك رفضت تناول أدوية تعرف بمثبتات المزاج، وهذه الأدوية المهمة لها تأثير بالغ في منع تكرار حالة الاضطراب المزاجي ثنائي القطبين. وحاول الأهل والأصدقاء إقناع كايت بأن عليها أن تتناول الأدوية العلاجية للاضطراب وكذلك مثبتات المزاج، والتي تمنع تكرار الحالة، كما يحدث لمعظم المرضى الذين يعانون من هذا الاضطراب. خلال سنوات عدة، كانت الانتكاسات تحدث بين آونة وأخرى، ويحاول الأهل مساعدتها لكن هناك صعوبة حينما لا يتعاون المريض «وللأسف هذا وضع معظم المرضى المصابين باضطراب الوجدان ثنائي القطب» مع الطبيب المعالج، والذي يتطلب علاجهم تناول أدوية المضادة للذهان وأدوية أخرى كما ذكرنا تسمى مثبات المزاج، وقد يحتاج المريض أن يتناول العلاج طيلة حياته، أو ربما يتم بعد مناقشة الطبيب أن يأخذ المريض فترة إجازة من مرضه، ولكن قد ينتكس المريض إذا لم ينتظم بتناول العلاج بعد فترة الاجازة، حيث يظن بعضهم أن ليس هناك داع للعودة لتناول العلاج، حيث يعتقدون بأنهم تم شفاؤهم من المرض، وهذا خطأ كبير. بالنسبة لكايت أوكارنو، فقد أوقفت علاجها، ولكنها طلبت من أهلها بأن يتصلوا بطبيبها النفسي المعالج إذا لاحظ عليها أياً من أقاربها أو أصدقائها أي عرض من أعراض الهوس أو الاكتئاب.
أستاذ جامعي
تحدثت في الفيلم أيضاً الدكتورة ميك سميث، وهي أستاذة مساعدة في علم الاجتماع في جامعة ويسترن سدني، وكانت قد أصيبت بمرض الاكتئاب، وبعد ذلك تم تشخيص مرضها على انه «الهوس الاكتئابي» في ذلك الوقت، ولكن مرضها لم يكن بصورة صعبة، واستطاعت بمواظبتها على العلاج أن تكمل دراستها وتحصل على الدكتوراه وتصبح رئيسة لجمعية أصدقاء مرض الاضطراب الوجداني ثنائي القطب. ورغم انها تعاني من المرض إلا انها لا تتناول العلاج بانتظام، ولكن إذا شعرت بتغير في مزاجها فإنها تتناول الأدوية المضادة للاكتئاب حتى تحسن حالتها وتستطيع مواصلة عملها كأستاذة مساعدة في علم الاجتماع، وتنصح الدكتورة ميك سميث المرضى بالاكتئاب بأن يحرصوا على تناول العلاج، وتكرر ما يقوله الكثيرون من المرضى الذين يعانون من الاكتئاب، رغم صعوبة مرض الاكتئاب إلا انه مرض قابل للعلاج، خاصة في العصر الحديث، الذي تطورت فيه الأدوية المضادة للاكتئاب، وتم في العقد الأخير من القرن العشرين والخمس سنوات الماضية من القرن الحادي والعشرين، تصنيع أدوية مضادة للاكتئاب فاعلة، وتقوم بالعمل في وقت سريع، مقارنة بالأدوية المضادة للاكتئاب التي كانت في منتصف القرن العشرين. وكذلك فإن الأعراض الجانبية لهذه الأدوية أقل كثيراً من الأدوية المضادة للاكتئاب السابقة، التي كان الأشخاص الذين يتعاطونها يعانون من أعراض جانبية كثيرة.
سيدة أخرى في الفيلم تحدثت عن تجربتها مع الاكتئاب، ومحاولتها الانتحار لأكثر من اثنتي عشرة مرة، ولكنها لم تنجح في أي من محاولات الانتحار. اسمها «تابيثا» وتعمل منظفة لحافلات النقل، بينما زوجها يعمل سائقاً لحافلة لنقل الركاب. وضعهم العائلي والمادي لا يساعدهم كثيراً على أن يتعالجوا في المستشفيات الحكومية، فكثيراً ما تحتاج تابيثا سريراً في مستشفى للأمراض النفسية ولكن لا يوجد مما يشكل عبئاً على زوجها لا يستطيع أن يذهب إلى العمل ويتركها وحدها. ويتساءل هذا الزوج لماذا هناك اهتمام بصرف مبالغ كبيرة على بعض الأمراض العضوية ولا تحظى الأمراض العقلية بمثل هذه العناية مثل مرض السرطان؟.
ويقول إنه لا يعارض أن يحظى مرضى السرطان بكل هذه الرعاية ولكن لماذا لا يكون أيضاً اهتماماً بالأمراض العقلية والنفسية؟.
هذا السؤال يتكرر كثيراً، فمعظم دول العالم تشكو بشدة من نقص في الأسرة الخاصة بالمرضى العقليين أو النفسيين.. والميزانيات الخاصة برعاية المرضى النفسيين والعقليين لا تتجاوز 1٪ من ميزانيات وزارات الصحة في معظم دول العالم.. وهذه حقيقة حسب ما تقوله تقارير منظمة الصحة العالمية.
إن الاكتئاب مرض مزعج، وخطير، ولكنه مرض قابل للعلاج، فليت المرضى الذين يعانون من مرض الاكتئاب يتناولون الأدوية المضادة للاكتئاب حتى يقهرون الكلب الأسود.. كما وصفه ونستون تشرشل..!!