الشخصية الهستيرية ، نظرة تحليلية
الهستيريا : كلمة يكثر استخدامها - بل - تكثر إساءة استخدامها - على المستوى العام ، حيث تطلق على من يظن به الجنون أو (الهبال ) بشكل أو بآخر. ولم تسلم حتى على المستوى العلمي ، من تعدد الاستخدامات لأغراض مختلفة.
كانت هذه الكلمة إبان نشأة التحليل النفسي تعني الأعراض "التحولية" التي تطرأ على المريض الذي يعاني من مشكلة نفسية ، حيث يصاب بنوبة غريبة مفاجئة تشل حركته ، وقد تسقطه أرضا ، وقد تخرسه عن الكلام... هذه الأعراض المفاجئة والتي تظهر نتيجة لصراعات نفسية داخلية يطلق عليها اليوم " الاضطراب التحولي" Conversion Disorder
وكلمة هيستيريا مشتقة من كلمة تعني "الرحم " باللغة الإغريقية ، حيث كان يعتقد في العصور القديمة أن الرحم يجف ، ويصبح أقل وزناً ويتنقل في تجويف الجسم من مكان لآخر ، مما يسبب هذه الحالات. فعندما يستقر الرحم في البلعوم فإن المرأة تشعر بكتلة في بلعومها وصعوبات في التنفس ، بينما يسبب أعراضاً أخرى عندما يستقر في مكان آخر. وقد كتب الطبيب الإغريقي هيبوقراط : "عندما تعاني المرأة من الهستيريا ، أو من مخاض عسير فإن نوبة من العطاس قد تكون مفيدة لمثل هاتين الحالتين" !
ورغم ان علماء التشريح في القرن السادس عشر أثبتوا ان الرحم مثبت في الجسم بإحكام ، ومن غير المحتمل أن يتجول داخله كما يحلو له ، الا ان هذا الاعتقاد بقي لمدة طويلة مما جعل الهستيريا ذات علاقة وثيقة بالمرأة.
واليوم ، اضطراب الشخصية الهستيرية ، تشخيص معترف به ضمن قائمة اضطرابات الشخصية ، وعلى أن الإعتقاد السائد يتضمن أنه يحدث دائما عند النساء ، إلا انه قد يحدث لدى الرجال .
أما الشخصية الهستيرية حسب المفاهيم الحديثة فهي أكثر انتشاراً بين النساء. من صفات هذه المرأة التي تتصف بهذه الشخسية أنها تحمل دائما جرعة زائدة جدا من المشاعر ، وتبحث طوال الوقت عن اهتمام الآخرين؛ بل انها تشعر بالضيق وعدم الراحة حينما لا تكون محور الاهتمام ومدار انتباه الآخرين. وللحصول على ذلك الاهتمام ، فهي لاتتورع عن ارتداء الملابس اللافتة أو المغرية. كما تتضح هذه النزعة الإغرائية في أسلوب كلامها وضحكاتها و تعاملها مع الجنس الآخر خصوصاً.
ومن الصفات المميزة للمرأة التي تعاني من اضطراب الشخسية الهستيرية أنها تبالغ في ردات فعلها ، وفي وصفها للأمور بطريقة درامية ، مسرحية ، كما تميل غلى تصوير علاقاتها مع الآخرين بأنها أهم ، وأكثر حميمية مما هي عليه في الواقع. هذا إضافة إلى كونها سطحية في انطباعاتها عن الأشياء ، ولا تتطرق للتفاصيل ، ومن السهل التأثير عليها وإقناعها.
وقد تحدث عدد من العلماء عن تطورهذا الصنف من الشخصيات خلال سنوات الطفولة المبكرة ، من خلال نظريات عديدة ، نستعرض فيما يلي أكثرها قبولاً واتفاقاً:
1. عندما تحرم الطفلة من حنان الأمومة ، فإنها تبحث عن الإرضاء لدى والدها ، وسرعان ما تكتشف أن العزف على وتر العواطف والانفعالات أمر مطلوب للحصول على اهتمام والدها (الرجل) . ومع نضوج هذه الفتاة فإنها تستمر في الكفاح لتبقى "فتاة أبيها المدللة". لكنها ، مع ذلك ، لا تمنع نفسها من الانخراط في علاقات إنسانية مختلفة (حتى مع الجنس الآخر أحياناً) ، وتتصرف بطريقة مشوشة ، تعتمد العشوائية في اختيار الطرف الآخر - في حال توفر الفرصة - ولكن هذه العلاقات لا تكون مُرضية في الغالب مما ييؤدي بها للفشل.
2. ظاهرة "البحث عن العشاق" المتمثلة في محاولات لفت الانتباه والإغراء اللاواعي أحياناً ، يحمل في طياتها اعتقادا ثابتا لدى هذا الصنف من النساء بأن الشخص المحبوب لن يكون أبدا كوالدها. وهي بذلك تحاول الإبقاء على إخلاصها ووفاءها لإعجابها بأبيها (ولكن بشكل غير واع). صاحبات مثل هذه الشخصية ينزعن إلى الإعتقاد بكمال الأب ومثاليته ، وبأنه الشخص الوحيد الذي يستحق الحصول عليه تكبد العناء. هذا الاتصال القوي بالأب يقود إلى الشعور بالمنافسة مع الأم ، وكثير من المصابات بهذا الإضطراب تذكرن بوضوح الرغبة في أن يكنّ مكان الأم في قلب الأب لو أتاح لهن القدر ، أثناء جلسات العلاج أو التحليل النفسي.
3. الأم هي ليست الوحيدة التي قد تضطرب علاقة الفتاة صاحبة الشخصية الهستيرية بها ، فالإخوة قد ينالهم من ذلك نصيب. فلو اكتشفت الفتاة أثناء أطوار نموها بأن إخوتها الذكور يتمتعون بحظوة ما لدى أبيها ، لمجرد كونهم ذكوراً ، فإن الكره العميق للذكور قد يتغلغل في أعماقها ، وتبدأ في منافستهم بشراسة.
4. مع أن هذا الصنف من النساء يعتمد للفت الانتباه على طريقة اللباس المثيرة وعرض مفاتن الجسد ، التي توحي برغبات جنسية خفية ، إلا أن كثيراً من المصابات بهذا الإضطراب تنقصهن القدرة على إتمام العلاقة الجنسية الطبيعية ، والقيام بها بصورة حميمية ، تعبر عن حب داخلي ورغبة حقيقية. والمثير في الأمر أن هؤلاء النسوة يرين كل هذه الإيحاءات والإيماءات أمر طبيعي ولا يخفين دهشتهتن ، بل قد يغضبن كثيراً ، حينما يستجيب الرجال لهن بطريقة تعبر عن افتتانهم بما رأوا ، أو رغبتهم في الاستجابة لهذه الإيحاءات. فعلى سبيل المثال: تمشي فتاة في السوق تتغنج وتتلفت هنا وهناك في كامل زينتها ، ويراها شاب فيعتقد أن في لباسها هذا وفي حركاتها المتكسرة دعوة سافرة للاغراء. كلنه يتلقى منها ضربة بكعب حذائها عندما يحاول التقرب ومغازلتها. هي مع ذلك تستغرب لماذا اختارها من بين كل المتسوقات ، ذلك الذي لا يستحي. وهو يستغرب ردة فعلها القاسية رغم مظهرها الداعي للإغواء!!!
5. المصابة بهذا الإضطراب ، تمترس أسلوب العزل النفسي - وهو حيلة نفسية دفاعية - تفصل في ذهن هذه المرأة بين المظهر الخارجي الإغرائي الراغب في جذب الإنتباه ، وبين تصورها عن كيفية تأثير ذلك في الآخرين.
6. الفتاة ذات الشخصية الهستيرية ، قد تختار شريك الحياة غير المناسب مما يؤدي بها للفضل الزواجي المتكرر ، كوسيلة دفاعية ، تمكنها من الاحتفاظ بإعجابها بأبيها.
هذه الأفكار التحليلية لا تكون واضحة في ذهن الشخص المصاب بهذا الاضطراب ، بل تحتاج لتقييم دقيق متفحص من قبل معالج نفسي متمرس في التحليل النفسي. إلا أنه أحيانا ، على الجانب الآخر ، يكون واضحا تماما ، وفيه تدرك الفتاة جيدا إعجابها الشديد بأبيها . كما قد لا تدرك الفتاة بشكل واعٍ ، العلاقة المتوترة مع والدها رغم مشاعرها التي يشوبها الغضب ، كوسيلة دفاعية ضد إعجابها المكبوت الذي لا ينبغي لاتصريح به. كذلك ، قد لا تدرك بوعيها حقيقة مشاعرها التنافسية تجاه أمها ، والتي تحبها على مستوى الوعي.
قد يسأل سائل:
مالذي يجعل علماء النفس يتبجحون بإدعاء معرفة ما لايعرفه الشخص عن نفسه؟ والجواب يكمن في عشرات السنين من تراكم الملاحظات والأبحاث والدراسة ، والأدلة الواضحة في مراقبة نتائج ماقد حدث وإن لم يمكن مشاهدته عياناً ، فالبعرة تدل على البعير والأثر يدلّ على المسير.
أما الاعتماد على العرض المسرحي للمشاعر ، والمبالغة في إظهارها ، فيعتقد العلماء أن ذلك يعود إلى تجربة سنوات الطفولة المبكرة حيث لم يكن الطفل يحصل على القدر الكافي من الحب والحنان والاهتمام. . ويحدث مثل ذلك حينما يكون الوالدان مشغولين بنفسيهما ، أو عندما يبديان التذمر الدائم من حاجات الطفل الأساسية أثناء نموه. فينشأ الطفل دون أن يفلحان في احتواء مشاعر الخوف الغامرة لديه. نتيجة لذلك يضطر الطفل للمبالغة في إظهار مشاعره وعواطفه في محاولة للابتعاد عن التجربة الشعورية الداخلية المليئة بالخوف والوحدة. لكنها أيضاً تنجح في اجبار الآخرين على سماعها والانتباه لوجوده .
المعرفة العميقة لكيفية ظهور هذا النمط من الشخصية يساعد المصاب بها ، والمحيطون به ، على فهمٍ أفضلٍ لما يحصل بينهم من تفاعالات. وقد يكون هذا الفهم هو الشعاع الأول لإشراق شمس التغيير . كما ان إدراك هذه الجوانب التحليلية المختلفة يساعد المعالج "المتخصص" في فك رموز هذه الشخصية ، حتى تصبح أكثر سلاسة وقدرة على الدوران بسلاسة مع عجلة الحياة ، وأكثر قابلية للتعايش مع الآخرين ، بالحد الأدنى من الهستيريا
مقال بقلم د.متعب حامد، استشاري الطب النفسي