رهاب المرض (الخوف من الأمراض)
يطوف خاطر الخوف من المرض بفكر كل فرد منا في وقت من الأوقات. من الذي لم ينظر إلى بقعة في يده ويتساءل إن كانت هي نوعا من أنواع الأورام السرطانية أو مرضا خطيرا
آخر؟ إن وسواس المرض أو تخيله تجده بصورة واضحة عند الطلبة الذين يدرسون في كليات الطب وطب الأسنان والذين يعتقدون انهم مصابون بتلك الاضطرابات التي يدرسونها في تلك الأيام ثم تتوالى عليهم المخاوف من المرض كلما تقدموا في دراستهم ...
إن هذه المخاوف، من حسن الحظ، هي مخاوف مؤقتة لا تقود إلى أي نوع من الإعاقة ولا تحتاج إلى علاج.
الخوف من المرض يكون لدى قلة من الناس هاجساً قوياً لدرجة تجعلهم يذهبون لمقابلة الطبيب طلباً للمشورة. عندما تصبح المخاوف من عدة أمراض جسمانية مختلفة ومن أمراض متنوعة فإن الشخص يُقال انه مصاب بوسواس المرض (التجسد)، أما عندما يتركز الخوف حول عرض بعينه أو مرض واحد ولا توجد أي مشاكل نفسية أخرى فنحن نتحدث عن حالة رُهاب المرض.
على الرغم من أن المرض الجسدي يمكن أن يثير، في بعض الأحيان، الرُهاب أو يجعل الفرد أكثر فاعلية لظهور الأعراض عليه في المستقبل، إلا انه، وعلى وجه العموم، لا يوجد تاريخ مرضي في الماضي يشرح هذا الأمر. بالطبع هناك حالات قليلة تم تسجيلها توضح لنا أن تطور المرض الذي خيف منه قد قاد في حقيقة الأمر إلى خمود ذلك الخوف.
الفرق بينه و بين أنواع الرهاب الأخرى:
إن رُهاب المرض يختلف عن كل أنواع الرُّهاب الأخرى لأنها مخاوف لموقف يصعب على المريض الهرب منه. إن المشكلة التي يخاف منها موجودة داخل جسده. لذا لا يستطيع تجنب أو وقف الرهاب أو الهرب منه، عكس الأشخاص الذين يخافون الكلاب، أو من السفر بالطائرات، وما شابه ذلك. على أية حال، فإن الخوف من المرض قد تثيره مواقف معينة يقوم بعدها المريض بتجنب تلك المواقف، كما في حالة تلك المرأة تخاف الصرع ولا تستطيع الخروج وحدها خشية أن تفاجئها نوبة صرع. هذا رجل أخذت له عدة فحوصات بالأشعة السينية بدأ يفكر في أنه قد يصاب بسرطان الدم (لوكيميا) رفض الخروج دون زوجته أكثر من مرة لأنها كانت تطمئنه بصورة متكررة.
إن السعي اللانهائي في طلب الطمأنة لدى أناس ذوي مخاوف من وسواس المرض أو لديهم هواجس قهرية يشبه إلى حد بعيد الإدمان.. فهذا الشخص الذي يطلب الطمأنة يقل عنده القلق بصورة مؤقتة ولكن التوتر سرعان ما يتراكم ثانية مما يحتاج معه إلى إعادة طمأنة مرة أخرى خلال عدة أسابيع، أيام، أو دقائق، أي تصبح الفترات ما بين طلب الطمأنة قصيرة. هذا يذكرنا بأولئك المدمنين على المخدرات والذين تظهر عليهم أعراض انسحابية حين يتوقفون عن تلك المخدرات ولكنهم يشعرون بتحسن لمدة من الزمن بعد تعاطيهم "المعلوم". كلما أصبح الإدمان قوياً كلما تزداد الحاجة إلى المخدر من ناحية الكمية وفترات التعاطي.
تأثير الثقافة والمجتمع والأسرة على رُهاب المرض يعكس رهاب المرض:
في حملة أقيمت في بداية القرن الميلادي الماضي في الولايات المتحدة لتثقيف العامة حول مرض السل (الدرن) أصيب بعض المرضى بمخاوف من هذا المرض لكن أصبح السل نادراً هذه الأيام وغير معروف حتى يخافه الناس، بينما أصبحت أمراض مثل الأورام السرطانية وأمراض القلب وكذلك مرض نقص المناعة المكتسب (الايدز) تجد اهتماماً متزايداً.
إن أولئك الذين تقوم بتربيتهم أسر تهتم كثيراً بالوعي الصحي هم أكثر عرضة أن تظهر لديهم مخاوف من الأمراض. إذا أصيب شخص ما بمرض في أحد أجزاء جسمه فإنه قد يقلق كثيراً حول ذاك العضو. إن الاصابة بالحمى الروماتيزمية تجعل الإنسان قلقاً، دون أي داع، حول صحة قلبه. بعض الأشخاص يماثلون والديهم، اخوتهم أو اخواتهم حين يشكون من مرض معين. إن الخوف من مرض معين قد يعكس مشاكل ذات طبيعة نفسية، إن الخوف من مرض الزهري أو مرض الايدز قد يحدث لشخص يشعر بالذنب جراء مغامراته الجنسية، وأحياناً دون أي داع.
إن كل هذه العوامل قد تزيد حدتها عند تنشئة الفرد في محيط ذي اهتمام مفرط بالأمراض الجسدية، أو حين تنتشر في أوساط العامة أفكار ودعايات عن مرض بعينه. كانت هناك امرأة لها أقارب مصابون بمرض الصرع فانتابتها مخاوف في أنها أيضاً سوف تصاب بنوبات صرع فأصبحت خائفة من الخروج من منزلها بمفردها. كذلك قد يحدث في بعض الأحيان الخوف من المرض بسبب فشل الطبيب والمريض من التواصل ومخاطبة أحدهما الآخر، قد يسيء المريض فهم سكوت طبيب قليل الكلام على أنه نذير شؤم بأن هناك معلومات خطيرة مخيفة قد حجبت عنه.
قد يؤدي الخوف إلى قلق دائم وبحث مستمر في طلب الطمأنة إن الأشخاص الذين لديهم مخاوف من المرض قد يكونون في حقيقة الأمر في حالة صحية ممتازة. هذا الخوف، رغم ذلك، يكون مستمراً ويشغلهم عن أداء نشاطهم اليومي، أكثر من كونهم قد أصيبوا بهذا المرض الذي يخشونه. وكما قال أحد الأشخاص مرة: "ان الخوف أكثر ألماً من الألم الذي نخشاه". يفحص المريض دوماً كل أجزاء جسده أملاً في وجود أي دلائل على المرض. لا آفة جلدية أو تحسس عضوي يكون أمراً تافهاً وغير جدير بالاهتمام عند تلك الحواس القوية لدى المريض بالرهاب. فهو يسيء فهم تلك الأحاسيس النفسية. قلق المريض نفسه قد يولد أعراضاً مرضية جديدة مثل آلام البطن وتقلصاتها، والناتجة عن انقباضات المعدة، وهكذا يعزز تكهناته المتشائمة.
بينما يكون لكثير منا بعض المخاوف من المرض في وقت من الأوقات إلا انها لا تأتي كي تقيد حياتنا باستبعاد سائر الأمراض الأخرى. كان هناك مليونير أمريكي مشهور اسمه هوارد هيود يخاف جداً من القذارة والالتهابات (الأمراض) لدرجة أنه ذهب بعيداً في القيام باحتياطات غيرعادية كي يحمي نفسه منها. أصبح منعزلاً اتبع نظاماً غذائياً غريباً، ورفض مقابلة الأطباء. إن خوفه هذا في حقيقة الأمر عجّل بنهايته. عندما أضحى مريضاً جداً وهزيلاً، كان الطبيب لا يستطيع مقابلته إلا وهو فاقد وعيه وعلى شفا الموت. حينئذ أصبح الوقت متأخراً جداً لإنقاذه بالرغم من أن اهتماماً طبياً في البداية كان كفيلاً بمساعدته كثيراً.
يقوم المصاب برُهاب المرض بعمل مئات المحادثات الهاتفية والزيارات لمختلف الأطباء الموجودين في منطقته في محاولة يائسة بحثاً عمن يعيد طمأنته. إن اخباره بأن كل شيء يبدو جيداً يهدئ شيئاً من مخاوفه لفترة قصيرة فقط ثم يبدأ من جديد في البحث عن إعادة الطمأنة مرة أخرى. إن التوتر ودرجة الإعاقة الناجمة تكون مأساوية حتى ان القارئ العادي يجد صعوبة في تصديق بعض الحالات لو تكلمنا عنها وهي لأشخاص حقيقيين.
أمثلة متطرفة لرهاب المرض:
1. هذه قصة امرأة تبلغ الثانية والثلاثين من العمر قامت بمراجعة أقسام الحوادث والإسعاف لمستشفيات مختلفة حوالي ثلاث وأربعين مرة خلال السنوات الثلاث الماضية وعمل لها فحوصات بالاشعة في كل جزء من أجزاء جسمها. كانت أحياناً تقول انها تخشى ان تموت بسبب سرطان المعدة، وأحياناً بسبب جلطة دموية، وأحياناً أخرى بسبب ورم خبيث في مخها. أوضح الكشف عليها انه لا يوجد هناك أي أمر غير طبيعي، وتخرج من المستشفى كل مرة وقد "استعدت شبابي، إنه أمر يشبه الحكم عليك بالإعدام ثم يرجئ تنفيذ الحكم". وتذهب إلى مستشفى آخر "لا يعلمون منه أني غير صادقة.. ترعبني فكرة الموت، إنها النهاية.. النهاية التامة، كما أن فكرة التعفن والتحلل داخل الأرض تشكل هاجساً بالنسبة لي.. استطيع ان أرى الحشرات والديدان". ثم تغادر فراشها في حوالي الثانية صباحاً وتتجه إلى المستشفى وتقف لعدة ساعات خارج مبنى المستشفى لأنها تعتقد انها سوف تحصل على المساعدة إذا رغبت في ذلك.
2. إن الخوف من المرض قد يؤدي إلى إعاقة قاتلة. فهذا رجل في الثالثة والخمسين من عمره كانت لديه مثل هذه المخاوف من المرض خلال الأعوام الثمانية والعشرين الماضية، استشار خلالها الأطباء مئات المرات طلباً لإعادة طمأنته عن صحته من تلك الأمراض. كذلك استشار مفتشي المصانع ومسئولي امدادات المياه عن مدى نقاء العديد من المواد التي كان يتعامل معها. كذلك لم يذهب إلى عمله حوالي ثلث أو ثلثي حياته العملية. طلب من زوجته، مرّات لا حصر لها، الاتصال بالأطباء ومختلف المسئولين سعياً وراء طمأنته، ولأنه أجرى فحوصات بالأشعة مئات المرات فقد شكا حديثاً من خوفه بأن هذه الأشعة تؤدي إلى اصابته بسرطان الدم (اللوكيميا). إن مخاوفه من المرض ورغباته المصاحبة لطلب إعادة الطمأنة بصورة متكررة كانت ذات علاقة بأفعاله الوسواسية. إن العلاقة بين رُهاب المرض والسلوك الوسواسي القهري ليست نادرة.
علاج رُهاب المرض:
إن علاج رُهاب المرض يتبع نفس الأسس التي يقوم عليها علاج بقية أنواع الرهاب ما عدا أن المثير الذي يحتاج المريض أن يعرّض نفسه له موجود داخل عقله أكثر من وجوده في العالم المحيط به. إن الشخص الذي يخاف المرض يجب تعريضه بصورة منتظمة عن طريق فكرة أنه قد يكون مصاباً بالسرطان، أمراض القلب، الايدز أو أي مرض آخر. يمكن تحقيق هذا التعريض بعدة طرق، إن المريض الذي يخشى من أنه مصاب بورم في مخه يمكن أن يسأله طبيبه:
"تخيل في حقيقة الأمر أن طبيبك المعالج قد قال لك انك مصاب بورم سرطاني في مخك وأن أمامك فترة ستة أشهر لتعيشها ثم ترحل ويجب عليك البدء في ترتيب أمورك كي تساعد عائلتك في هذا الموضوع. لقد عُرضت عليك صورة الأشعة لرأسك، وأشار الطبيب إلى مكان الورم. قد لا تدرك هذا الأمر في البداية ولكن بعد مغادرتك حجرة الكشف هذه وأثناء نزولك بالدرج فجأة سوف تدرك ما قاله لك الطبيب.."
يمكن سؤال المصاب أن يتخيل مثل هذه المشاهد لمدة ساعة كل مرة حتى تصبح هذه المشاهد لا تثير قلقه ولكنها تضجره فقط. فالمرأة التي تخشى السرطان قد تعطى عينة من ورم سرطاني في زجاجة مقفلة تحتفظ بها في منزلها كي تراها كل يوم حتى يذهب عنها روعها. يُطلب من نفس المرأة أن تعلق في جدران حجرة نومها ومطبخها صوراً ومواضيع (مقالات) عن مرض السرطان كي تتعود عليها وتتوقف عن الهروب من مجرد التفكير في السرطان.
ثمة أحيان يكون الرُهاب من المرض متمكنا من الشخص، ويؤثر على جميع نواحي حياته، عندئذ قد يكون من المفيد أن يستخدم الطبيب المعالج بعض الأدوية المضادة للذهان لتخفيف قلق المريض ومساعدته على العيش بصورة أفضل. لكن يجب عدم أخذ أي علاج إلا باستشارة طبية من طبيب متخصص.
ما يجب عمله حيال الطلب المستمر لإعادة الطمأنة:
إن أولئك الأقارب والأصدقاء والذين يعانون كثيراً من ذويهم المرضى بالرُّهاب والذين يطلبون دائماً طمأنتهم يمكنهم أن يشاركوا في علاج هؤلاء المرضى. عندما يطلب المريض إعادة طمأنته فإنه يأمل أن يجد إجابة شافية تفيد بأنه غير مريض، غير ملوّث، أو أي شيء لاحق. إن المرض الذي يتجنبه مريض الرهاب هو فكرة تخامر كل فرد منا وهي أننا قد نقع فريسة للمرض ونموت. خلافاً لكل فرد، فإن مريض الرهاب يتجنب هذه الفكرة بقدر ما يستطيع بدلاً من مواجهتها كحقيقة واقعة. هذا يقودنا إلى أساس العلاج: الامتناع عن إعادة الطمأنة حتى تطرد الفكرة التي يخاف منها المريض، عندها يتوجب عليه أن يتعلم تحملها كما يفعل سائر الأفراد الآخرين. إن الطلب المتكرر لإعادة الطمأنة بصورة أو أخرى، يذكرنا بمدمن الكحول الذي يصحو من النوم وهو يرتجف. إنه يجد أن رشفة واحدة من الكحول سوف تعيد له هدوءه ولكن الرجفة سرعان ما تعود ويزداد الاقبال على الكحول وتستمر هذه الدوامة.. الحلقة المفرغة.. إن التوقف التام عن تناول أي نوع من أنواع الكحول هو الطريقة الوحيدة للاقلاع عن إدمان الكحول على المدى الطويل. نجد بالمقابل أن إدمان طلب إعادة الطمأنة يمكن كسره بالامتناع كلياً عن هذا الطلب.
إذا كان المصاب برُهاب المرض اعتاد ان يسأل زوجته قائلاً: هل أبدو شاحباً؟ هل أبدو مريضاً؟" وتعلمت زوجته أن تجيبه بلا.. "لا فأنت تبدو بالنسبة لي في صحة جيدة" تقول له.. "ان تعليمات الطبيب المعالج لي أن لا أجيب على مثل هذه الأسئلة". يعيد المعالج ولعدة مرات المشهد الذي يسأل فيه المصاب زوجته طالباً إعادة طمأنته وتجيبه زوجته بأنها لا تجيب على مثل هذه الأسئلة. يكرر هذا المشهد حتى يعي الزوجان جيداً ما يجب عليهما القيام به. إن هذا التحاور البسيط قد يكون صعباً تعلمه وقد يكرره الاثنان حوالي عشر مرات أمام المعالج حتى يجيداه.
إن مبدأ الامتناع عن إعادة الطمأنة هو أمر سهل الاتفاق عليه ولكنه صعب عند التطبيق. نجد أولئك الأقارب والذين تم تدريبهم لمدة سنوات، إلا انهم يجيبون المريض: "أنت بخير يا عزيزي" ومع ذلك فإن التدريب المتكرر عادة ما يساعدهم على تغيير هذا السلوك. إن الطبيب المعالج كذلك، هو أيضاً، قد يحتاج أن نعلمه كيف يمتنع عن القيام بالمزيد من الفحوصات والكشف إذا اقتنع إلى انها غير ضرورية. تصبح الحاجة إلى الامتناع عن إعادة الطمأنة ضرورة لأن المصاب برُهاب المرض يتوجب عليه أن يتحمل ذلك الشعور بعدم الراحة من كونه غير متأكد بأنه مريض أم لا. كل فرد منا في لحظة من اللحظات قد يتساءل عما إذا كانت تلك البقعة التي ظهرت على يده قد تتحول إلى ورم سرطاني أم لا، ولكننا قادرون على محو هذه الفكرة من أذهاننا. كذلك يحتاج المصاب بُرهاب المرض إلى ان يطور نفس هذه المقدرة ولكنه لا يستطيع حتى يتوقف عن طلب إعادة الطمأنة. عند بدء العلاج، حين توقف إعادة الطمأنة، قد تزداد وساوس المرض لدى المصاب عدة ساعات أو أيام قليلة ولكن إذا تمكن الشريك (الشريكة) من القيام بدوره بصورة صحيحة ودائمة ولم يفقد الأمل، عندها تبدأ الوساوس في التلاشي تدريجياً. عادة ما يتطلب الأمر من الشريكين أن يكونا على اتصال دائم مع المعالج طلباً للمساعدة والمؤازرة لأنه من الطبيعي وضد غرائزنا الامتناع عن طلب الراحة والطمأنينة لأولئك الذين نحبهم حتى ولو كانت هي ما نتمناه على المدى الطويل.