الرهـــاب
تصنف الأمراض النفسية إلى ثلاثة أصناف : عضوية ، عصابية ، ذهانية . وتعتبر الأمراض العصابية والذهانية اضطرابات وظيفية ليس لها أساس عضوي واضح . ودون الدخول في تفريعات هذه التقسيمات سنقتصر في الحديث على قسم مهم من الاضطرابات العصابية هو المخارف أو الرهاب، ويدعى باللغة الإنجليزية Phobias.
ولكي نفرق بين الرهاب والخوف الطبيعي والقلق النفسي ، فإن الخوف الطبيعي يكون إنعكاسا لموقف يثير الخوف في الكثير من الناس ولا يحدث أي استجابات مرضية فيما بعد.
وفي المقابل فإن القلق : شعور مبهم بالخوف ، يكون حاداً ووقتياً(ويدعى نوبات الفزع أو الهلع) أو يكون مستمراً وأقل حدة ويدعى (القلق العام أو القلق العائم).
أما الرهاب فهو :
شعور شديد بالخوف من موقف لا يثير الخوف نفسه في أكثر الناس. وهذا ما يجعل المريض يشعر بالوحدة والخجل من نفسه ويتهم ذاته بالجبن وضعف الثقة بالنفس و الشخصية.
ويختلف الناس باختلاف مصدر الرهاب ، فهناك : الرهاب من الأماكن الفسيحة أو رهاب الساح ، وهناك الرهاب من الأماكن المغلقة أو الضيقة وهناك الرهاب من الأماكن العالية والحشرات .. الخ.
وهناك الرهاب الاجتماعي ، حيث يخاف المصاب به خوفاً شديدا عند لقاء عدد من الناس ، فلا يستطيع الحديث ويضطرب ويحمر وجهه ويتلعثم وقد يضطر إلى الخروج مسرعاً لتفادي الإحراج أو قد ينقطع عن المناسبات الاجتماعية أساساً.
ولنأخذ مثالاً على الرهاب ؛ وهو :
الخوف من صعود الطائرة. هذا الخوف يصيب الكثير من الناس ، رجالاً ونساءً ، ولكن عندما نأخذ في الاعتبار حاجة الرجل للسفر بحكم العمل وقضاء الأمور الإدارية والقانونية والمعاملات التجارية ومراجعة الدوائر الحكومية فإن الرجال قد يحتاجون للعلاج أكثر من النساء اللائي وإن كان لديهن هذا الخوف فمن السهل عليهن تفادي صعود الطائرة لعدم الضرورة.
ومصدر هذا الخوف أفكار معينة تسيطر على المصاب ، منها :
أولاً: الشعور بأن المكان مغلق ولا وسيلة للفرار عند الحاجة.
ثانياً: الخوف من الإصابة بأمر ما حيث لا يوجد طبيب أو تجهيزات طبية تنقذه.
ثالثاً: الشعور بأنه لا يملك من الأمر شيئاً ، فالطائرة معلقة بين السماء والأرض وهو لا يدري هل كل شيء على ما يرام أم أن هناك خلل ما عندما يسمع صوت منبه أو تهوي الطائرة في مطب هوائي أو تختل حركتها.
وقد يكون أصل هذه المخاوف هو الإصابة باضطراب القلق الحاد (الفزع أو الهلع) وبالتالي فإن الشعور بعدم الأمان في حالة الإصابة بنوبة هو ما يثير هذا الخوف الشديد من صعود الطائرة.
ومن ناحية أخرى فإن الخوف من سقوط الطائرة وما يسمعه المرء من حوادث تحطم الطائرات يجعل كل من يصعد الطائرة يفكر في هذا الأمر. ولكن هناك من يستطيع دفع هذه الأفكار بسهولة يغلّب حسن الظن بالله ثم بالمسؤولين عن الطائرة ، وهناك من لا يقدر على دفع هذه الأفكار السوداء ويستمر فيها حتى يشعر أنه لن تسقط طائرة في الدنيا غير هذه التي يستقلها ، وبالتالي فهو يشعر بالخوف وكأن الطائرة في حالة سقوط فعلا .
من الجدير بالذكر أن هذه الفئة الأخيرة من الناس ذات تفكير مضطرب في هذا الخصوص. فلو نظرنا لأحدهم وهو مسافر لتوقيع صفقة تجارية مثلاً لوجدنا أنه أدرج كل العوامل المتعلقة بهذه العملية التجارية في حسابه وجعلها في طرفي معادلة خرج منها باحتمالات أعلى للنجاح في هذه الصفقة وإلا لما أقدم عليها أصلاً. ومع ذلك فهو لا يملك ضمانات للنجاح وقد يخسر خسارة فادحة رغم احتمالات النجاح الكبيرة التي ظهرت بها دراسة الجدوى.
إذن هو في هذا الأمر اعتمد نظرية احتمالات حيث تمتد النسبة من صفر إلى100%. ولكن هذا الشخص نفسه وهو يخاف من الطائرة لا يحسب الأمر بنفس الطريقة ولكنه نظر إلى الحوادث النادرة جدا لتحطم الطائرات وخرج بنظرية تعتمد على إمكانية حدوث الشيء وهي دائماً 50% . فهل يمكن أن تسقط الطائرة "نعم" ، إذن فهي ستسقط لا محالة ، ولو فكر بنفس الطريقة ، وهي أن الصفقة التجارية يمكن أن تخسر "إذن فهي خاسرة لا محالة" ، لما أقدم عليها.
ومع أن السائد في حياتنا هو حساب الاحتمالات وليس إمكانية حدوث الشيء فإن الخائف يعتمد الثانية لا الأولى التي هي الأصح.
وهذا يقودنا إلى كيفية التغلب على هذا الخوف. فلا شك أن المرء عندما يوقن بسقوط الطائرة ونهاية حياته سيشعر بالخوف الشديد وقد يموت قبل الموت في الحادث فعلاً ، فتتسارع دقات قلبه ويضيق نفسه وتبرد أطرافه وترتعد فرائصه ويتصبب عرقاً وقد يشعر بالدوار الشديد أو حتى الإغماء.
عندما تكون الحالة بسيطة فقد يكون من الممكن السيطرة على الخوف فقط بإعادة الحسابات. فكم من صديق له سافر ورجع بالسلامة ، وكم من قريب سافر ورجع سالماً غانماً ، وكم من طائرة وصلت هذا اليوم وهذا الأسبوع وهذا الشهر ولم تصب بأذى ، وكم من طائرة أقلعت هذا اليوم وهذا الأسبوع وهذا الشهر ولم يعترها بأس ، وكم على متن هذا العدد من الطائرات من مسافرين ، كلهم تفسحوا وسعدوا وقضوا حوائجهم. هل من الذكاء أم من الحماقة أو التشاؤم الذي لا يرضاه عقل ولا دين أن نغفل عن كل هذه الرحلات الآمنة ونجعل نصب أعيننا حالات نادرة جداً ؟
قد يقول قائل: "ولكن قد أكون أنا سيء الحظ وتكون هذه الطائرة هي التي تسقط من بين تلك الألوف المؤلفة من الرحلات". نقول له: ليس هناك ضمان ، ولكن الأغلب (الاحتمالات) أن هذا لن يحدث بإذن الله ، بدليل هذه الرحلات الكثيرة الآمنة وما يسبقها من احتياطات السلامة والوقاية والتدريب. ثم إنك يا أخي بين يدي الله ، اعمل ما عليك من أسباب ودع الأمر كله من قبل ومن بعد لله ، وكن مؤمناً حقاً بأن ما أخطاك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك.
أما إن كان الخوف شديداً بحيث يجعل المصاب به يلغي فكرة السفر مرة بعد أخرى مما يؤثر على مجريات حياته ويحد من حركته ونشاطه الاجتماعي أو الوظيفي أو التجاري ، فإن ذلك داء يجب التداوي منه ، والحمد لله فإن العلاج سهل وبسيط وميسور.
يعتمد علاج الرهاب على أساس دوائي يقلل من درجة الخوف ويجعل من السهل التعامل معه في حينه. ويمكن استعمال هذه العقاقير عند اللزوم وخاصة عندما تكون الحاجة إلى السفر قليلة وعلى فترات متباعدة.
أما الطريقة الثانية ( وتضاف إلى العلاج الدوائي ) فهي تعتمد أسلوب الاسترخاء ، إذ لا يمكن أن يكون المرء مسترخيا وقلقاً متوتراً في ذات الوقت. فيتم تدريب المصاب بالرهاب على الاسترخاء حتى يتقنه بشكل ممتاز ومن ثم يتم استعماله في برنامج التحسيس التدريجي لمواجهة الخوف من صعود الطائرة بشكل متدرج حتى يتم السيطرة عليه تماماً.
و يكون ذلك عادة على شكل جلسات مع الطبيب أو الأخصائي في علم النفس الإكلينيكي وتتراوح كل جلسة من نصف ساعة إلى الساعة الكاملة مرة كل أسبوع تقريباً لمدة حوالي 12أسبوع.
وعادة ما تكون النتائج جيدة جداً ما لم يكن هناك عوائق تؤخر مسيرة العلاج مثل الانقطاع المفاجئ أو عدم الاهتمام من المريض وخلافه...
أ.د. عبدالله السبيعي