حياءٌ أم خجل!؟

كاتب المقال: الإدارة
التاريخ: الجمعة, يونيو 12, 2015 - 13:58

طلبت منها المعلمة طرح موضوعها على مسامع زميلات الصف ، ففوجئت بطلب المعلمة..وتصببت عرقاً وتسارعت نبضاتها وتلعثمت ثم توقفت واعتذرت عن الاستمرار.. 
*******
كانت تمشي بهدوء على جانب الممر المؤدي لقاعة المحاضرات..وعندما التقت بعدد من الزملاء خفضت بصرها للأسفل وردت التحية بصوت هادئ ..ثم تابعت مسيرها حتى بلغت غايتها..
******* 
اتهمه أحد زملائه تهمة باطلة ، واستدعاه مديره ليحقق في الأمر ..فما كان منه إلا أن واجه الأمر بارتباك وصمت ، دون أن يقدر على نفي التهمة عن نفسه أو المطالبة برد اعتباره..
******** 
انتظرت حتى هدأت القاعة ورفعت يدها تطلب سؤال ضيف الندوة..وفي صوت خفيض لكنه يتسم بالثقة ألقت سؤالها بلغة رصينة ودقيقة ، مما جعل الحضور ينتصون لها وينتبهون لكلماتها..
******
لقطات سريعة من مشاهد مختلفة..قد يخلط من يراها بين صفة أصحابها..فمنهم من يصفهم بالخجل ، ومنهم من يصفهم بالحياء ، ومنهم من لا يستطيع استخدام الوصف المناسب..
ولكن المتأمل يبصر الاختلاف البين والواضح ..فالمواقف التي يعاني أصحابها أعراض التوتر والارتباك ، والعجز عن نيل الحق أو الإدلاء بكلمة الحق ، هي مواقف تعبر عن الخجل المرضي..أما المواقف التي يضبط أصحابها سلوكياتهم ويخضعون تصرفاتهم لقواعد محددة مسبقاً كخفض الصوت وغض البصر والتزام آداب الحوار تشير إلى خلق الحياء كخلق رائع يدفع أصحابه لاجتناب القبيح أو السيء من الأفعال..
فإذا كان الحياء خلق سوي..فالخجل صفة مرضية
وإذا كان الحياء سلوك بنَّاء يدفع أصحابه للنجاح في ظل أطر وقواعد محددة..فالخجل مرض هدَّام يعجز أصحابه عن الاستمرار في المواقف التي تثير فيه دواعي الخجل..
وإذا كان الحياء شعبة من شعب الإيمان ، وقوام نظامه ودلالة على قوة المسلم في مجاهدة نفسه وإخضاعها للأطر والقواعد الشرعية ..فإن الخجل ضعفٌ لا يليق بنفس المؤمن ؛ حيث يعجزه عن التواصل ، ويعيقه عن التآلف ، ويعجزه أن يحيا حياة سوية..
فالحياء إذن قوة وفضيلة ..والخجل عجز ونقيصة
وحتى تكون الصورة أكثر وضوحاً نتوقف عند تعريف كل منهما:
الحياء: خُلق يبعث على اجتناب القبيح والتقصير في حق ذي الحق.، وهو انحصار النفس عن ارتكاب القبائح شرعية أو عقلية أو عرفية، وهو مشتق من الحياة ، ولذا قال بعض الفصحاء حياة الوجه بحيائه كما أن حياة الغرس بمائة.
وعن أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه قال: "الحياء رؤية الآلاء -أي النعم- ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء..
ويقول بعض العلماء : الحياء حالة حاصلة من امتزاج التعظيم بالمودة ، فإذا اقترنا تولد بينهما الحياء..
..............
أما الخجل: فهو حالة مرضية تنتج عن الشعور بضغط نفسي نتيجة مواجهة الإنسان لبعض المواقف..ويصاحب بعدد من الأعراض:
أولاً: أعراض سلوكية مثل: قلة الحديث فى وجود الأشخاص الغريبة ، عدم وجود روح التطوع فى آداء الأعمال للآخرين ، والانسحاب من المواقف الأجتماعية المختلفة التى تستوجب وجود العديد من الشخصيات حوله أو معه ،عدم القدرة على التحدث أمام الجماعة بشكل فردى ، تجنب التواجد فى أماكن متواجد فيها الكثير من الأشخاص التى يعرفها أو التى لا يعرفها ، عدم النظر إلى من يتحدث إليه، والنظر إلى أى شىء آخر بديل.
ثانياً أعراض جسدية: مثل سرعة دقات القلب ، سرعة النبض أو زيادة معدلاته ، الارتعاش ، آلام بالمعدة ، عرق فى الكفين ، جفاف الفم والحلق.
ثالثاً أعراض نفسية: مثل تفضيل العزلة والابتعاد عن التجمعات ، عدم تقدير الذات والتركيز الزائد عليها ، الشعور بالإحراج وعدم الأمان.
وهذه الحالة ترجع لعدد من العوامل منها العوامل الوراثية وطبيعة الأسرة وظروف النشأة وأسلوب التربية ، وهناك عدة وسائل لعلاجها خاصة لو تم ملاحظتها في مراحل مبكرة....
**************
نماذج تطبيقية للحياء
﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ.. ﴾
لم يكن نموذج ابنتي شعيب نموذجاً عارضاً لا دلالة له في القصص القرآني الكريم..بل إن المتأمل لهذا النموذج بكل تفاصيله يجد الكثير من العلامات والدلالات التربوية والنفسية الوضائه..
قال تعالى في سورة القصص ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾
فهذا مشهد عجيب قد واجه سيدنا موسى عليه السلام ، حين استقر به القرار عند ماء مدين ،..حيث وجد امرأتين تقفان دون الرجال وتمنعان غنمهما عن ورود الماء..
وقد استنفره هذا المشهد ليسألهما ما خطبكما..والخطب هنا دلالة على وجود أمر عظيم دفع الفتاتين للخروج للرعي ، دون أن يقوم عنهما أحد من الرجال بهذه المهمة..وكان الجواب البسيط الدقيق الواضح.. ﴿ لا نَسْقِي حََتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ..﴾
أي لا نندفع للسقاية بين الرجال ولا نقحم أنفسنا في مزاحمتهم ومدافعتهم..
هكذا هي سيماء المرأة العفيفة الحيية وهي تأبى على نفسها مخالطة الرجال أو مزاحتمهم ، حتى ولو كان الأمر لضرورة معيشية..فيقوم سيدنا موسى عليه السلام وهو الغريب الهارب المطارد المسافر المكدود بالسقاية لهما ، ولا يقعد تلبية لدواعي المروءة والنجدة والمعروف..
ثم يأتي المشهد الآخر.. ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ﴾ وهنا نتوقف لنترك لصاحب الظلال شرح دلالته..يقول سيد قطب:
"مشية الفتاة الطاهرة الفاضلة العفيفة النظيفة حين تلقى الرجال (( على استحياء )) في غير تبذل ولا تبرج ولا تبجح ولا إغواء .. جاءته لتنهى إليه دعوة في أقصر لفظ وأخصره وأدله..فمع الحياء الإبانة والدقة والوضوح ، لا التلجلج والتعثر والربكة ، وذلك من إيحاء الفطرة النظيفة السليمة المستقيمة.."
إذن فقد أبلغته رسالتها رغم حيائها ، وحدثته على ما كان من عفتها حديثاً موجزاً ومبيناً..ولو توقفت عند قولها إن أبي يدعوك؟ لسألها يدعوني لماذا ، ولخلقت بذلك نوعاً من الحوار..ولكنها أوضحت وأوجزت وأبانت..
ولم تختفِ بنات شعيب عند هذا من مشاهد القصة..ولكن نجد صوت إحداهما يرتفع في مشهد آخر وهي تقترح على أبيها ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَئْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ﴾ وهي بهذا تفصح عن رغبتها في أن يكفيهما هذا الفتى مهمة الرعي ومشقة الاحتكاك بالرجال..فالمرأة عفيفة الروح نظيفة القلب سليمة الفطرة ، لا تستريح لمثل هذه المزاحمة..وهي تعرض مقترحها على أبيها دون أن تتعلثم أو تضطرب أو تخشى سوء الظن والتهمة..
ويتلقف أبوها الرسالة ، وهو بفطنته وخبرته الطويلة يدرك صلاح هذا الرجل فيعرض عليه تزويجه إحدى ابنتيه وأن يكون أجيراً عنده لفترة معلومة..
لقد كان لنا في ابنتي شعيب نموذجا تطبيقياً وصورة عملية لمفهوم الحياء الصحيح السليم الذي يغشى القلب والجوارح ، ولا يمنع اللسان عن قول الصدق ولا يكبل النفس عن المطالبة بالحق..
***********
ولكن الحياء أيضاً من شيمة الرجال..
فكلمة الحياء عادة ما ترتبط في الأذهان بصورة المرأة وعلى الأخص الفتاة العذراء..في حين أن من الرجال العديد من الأسماء ممن ضربوا المثل في اتصافهم بالحياء..
الحياء صفة إلهية..قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"(( إن ربكم تبارك وتعالي حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً ))
الحياء صفة نبوية: فقد كان عليه الصلاة والسلام أشد حياء من العذراء في خدرها ، وما رئي ماداً رجليه بين صحابته قط..والمواقف الدالة على الحياء النبوي أشهر من أن نشير إليها.
الحياء صفة المؤمنين: ومن هؤلاء نذكر اسماً قد لازم الحياء ولازمه الحياء حتى أصبح صفة يعرف بها وتعرف به..وهو سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه..
يقول صلى الله عليه وسلم " "أصدق أمتي حياءً عثمان‏."
ويروى أنه لشدة حيائه رضي الله عنه ، كان إذا اغتسل يغتسل جالساً لئلا يكشف شيء منه حتى أمام نفسه.. 
وقد شهد الرسول صلى الله عليه وسلم بحيائه حين همَّ عثمان بالدخول عليه فاعتدل في جلسته ، وقال: ((ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)).
وقد تزوج سيدنا عثمان من رقية ابنة النبي صلوات الله وسلامه عليه ، وأقام في بيت النبوة فترة من الزمن ، وعنها يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن عثمان مكث عندي كذا وكذا ما سمعت خشخشه ماءه في الطشت_يعني ما أسمع عثمان النبي وهو يغتسل حتى لا يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم_
وماتت زوجه رقية ، وزوجه صلى الله عليه وسلم من أختها أم كلثوم..وعندما ماتت..قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لو كان عندنا أخرى لزوجناها عثمان))
وبعد ما يقرب من اثني عشر عاماً من توليه الخلافة تتأجج الفتن ويتكالب عليه المتآمرون من أعداء الأمة وتحين لحظة القضاء ، فلما كان يوم مقتله رأى في المنام رسول الله وأبا بكر وعمر وأنهم قالوا له: اصبر فإنك تفطر عندنا القابلة، فلما أصبح شدَّ عليه سراويله خشية أن تبدو عورته إذا هو مات أو قتل ، وقال لأهله: إني صائم. هكذا عاش حييِّاً وهكذا مات حييِّاً رضوان الله عليه.
ولقد كانت سيرته العطرة مجسدة لمفهوم حياء الرجل حين يستحي ، وتستحي جوارحه من الله ومن الناس بل وحتى من نفسه ، ولكن حياءه رضي الله عنه لم يعقه عن خدمة الدعوة والجهاد في سبيل الله في مختلف المواقع سواء بالمال أو النفس أو قول الحق ، حتى تولَّى خلافة المسلمين ما يقرب من اثني عشر عاماً شهدت توسعاً غير مسبوق في رقعة الخلافة الإسلامية ، كما كان له الفضل في جمع الناس على حرف واحد ، وكتابة المصحف على العرضة الأخيرة التي درسها جبريل مع رسول الله في آخر سنين حياته..ليكون لنا فيه وفي رسولنا الكريم وفي الصحابة والتابعين الأسوة الحسنة في عظيم القيم وسمو الأدب وجميل المناقب..

 

 

 

أ . شروق محمد 

سجل دخول أو إنشئ حساب جديد الأن لإضافة تعليق.