منظومة تفاعل التنشئة الاجتماعية(الأب ، الأم ، الطفل)
إن التقليل من أهمية دور الأب أو اضفاء الأهمية عليه في الوقت الحالي يرجع إلى المتغـــيرات والفرضيات الثقافية فقد أدى التحول الصناعي في الغرب إلى التقسيم الدقيق للعمل و الأدوار داخل الأسرة ، فقد ظهر هذا بوضوح مع حاجة الصناعة إلى ساعات عمل محددة. و لأن صناعة تتركز غالبا في مناطق مركزية ، كان على العامل أن ينتقل إليها تاركا بيته بالإضافة إلى أن العمل كان يتطلب في البداية قوة عضلية وقدرة على التحمل أكثر من حاجته للبراعة و المهارة . و من هنا كان التفضيل في الاختيار للعمال الذكور و استتبع هذا زيادة المسئوليات الملقاة على عاتق الزوجات في الأعمال المنزلية ، و تربية الأطفال حيث نأى الآباء عن أطفالهم ... و كما تمايزت الأدوار بسرعة داخل الأسرة ، حيث تغير دور الأمهات من مجرد تحمل عبء الحضانة و الرعاية المبكرة لتصبح هي المسئولة عن تربية الأطفال ، و تحول دور الأب من الممثل لثقافة المجتمع في عملية التنشئة الاجتماعية ليصبح الممول الاقتصادي للأسرة . و قد أوضح كاتز و كونر Katz & Konner أن الآباء في الثقافات غير الصناعية يحتفظون بدور مهم وفعال في التنشئة الاجتماعية ، رغم التحديد الصارم لدور الجنس.
ومن الأمور المثيرة أن استمرت المجتمعات الصناعية في التمييز الدقيق بين دور الأباء و الأمهات حتى بعد التغيرات التي لحقت بسوق العمل . اذ لم يعد من الضروري بقاء الآباء لساعات طويلة بعيدين عن بيوتهم. و مع ذلك ظل الأباء بعيدين أيضا عن مسؤولية تدريب الأطفال على العمل داخل الأسرة ليصبح الصبي فلاحا أو حدادا أو صيادا . لأن دنيا العمل لم تعد تستقبل الصبية بهدف تعليمهم حرفة معينة . أما داخل البيت فقد تمسكت الأمهات بمسؤليتهن عن التنشئة الاجتماعية .
وليست الوقائع الثقافية و حدها هي المسئولة عن الآثار التي أكدتها بعض النظريات النفسية فيما يتصل بالأم ووضعها فالتقسيم التقليدي للأدوار الوالدية و المسئوليات المترتبة عليها ترجع جزيئيا الى حتمية التكوين البيولوجي كوظيفة الثدي في افراز اللبن لدى الأم و الذى لا يمكن أن يقوم به الأب مع الطفل ، و ان كان هذا لا يعني أن وجود الثدي في حد ذاته يبرر تميز المرأة بيولوجيا ، و من ثم مسئوليتها الأولية في التنشئة الاجتماعية و الحضانة.
لقد كتب ليرمان Lerman أحد رواد البحوث البيولوجية و الهرمونية في علاقتها بالسلوك الأبوي عن الجدل الدائر حول المحددات البيولوجية قائلا، "ان القياسات شبه العلمية كثيرا ما تستخدم لتبرير تحيزاتنا . ان معظم الجدل الدائر حول الأساس البيولوجي للفروق الجنسية المشاهدة في السلوك الأبوي و التي تتعلق بما تلعبه الهرمونات من دور في السلوك ، انما تعتمد على سلوك الفئران . و ما جمع من أدلة عنه قليل لدرجة مثيرة للتساؤل.. حيث أن المتغيرات السلوكية في القوارض لها طبيعة نمطية. اذا ما قارناها بالتعقيدات الموجودة في التنشئة الاجتماعية و السلوك الأبوي عند الإنسان.
ان النقص في البيانات الخاصة بالتكوين البيولوجي للأنثى عدا كونها مرضعة يثير الكثير من الجدل حول علاقة المحددات البيولوجية بالسلوك الاجتماعي و مدى كفاية هذه المعلومات لتأكيد هذا الفرض.
وخلال السنوات القليلة الماضية تحدد دور الهرمونات في ظهور السلوك الجنسي بينما تزايد حجم التطور النوعي المكتسب من خلال عوامل التعليم الثقافي التي تزايدت أهميتها.
و هناك أكثر من سبب لاختلاف الجماعات البشرية و تمايزها و التي لها علاقة بالسلوك الجنسي و الأبوة . و لم يعد ثمة مبرر للإعتقاد في وجود علاقة بين الهرمونات و استثارة السلوك الأبوي.
ان منشأ معظم النزعات البيولوجية هو التحيز أكثر من كونه ضرورة . و يذهب Lamp & Goldberrg الى القول بأن الاستعدادات البيولوجية لا قيمة لها إلا من خلال التعزيز الاجتماعي لها . و قد ينقلب الوضع ان لم تستمد الدعم من المؤثرات الثقافية.
و لأن العلوم الاجتماعية جاءت في فترة تالية للعلوم البيولوجية فقد ظلت متأثرة بها . و انعكس هذا في الميل المبالغ فيه لحجم الأساس البيولوجي في تنميط السلوك و الفروق الجنسية و ما يرتبط بها من مؤثرات بيولوجية اجتماعية متعلمة.
و قد بدأ الاهتمام بدور الأب نتيجة عدة أسباب منها:
السبب الأول:
كان التركيز على علاقة الأم -الرضيع و الأم- الطفل مبالغا فيه و قد أدى هذا إلى تساؤل الباحثين عن مدى شرعية دور الأب في التنشئة الاجتماعية.
السبب الثاني:
يرجع إلى التغيرات الخطيرة التي اعترت بنية الأسرة التقليدية نفسها. و سرعة تغلغل التغيرات الحديثة في بيئة تربية الأطفال مما ألزم المشتغلين بالعلوم الاجتماعية مراجعة أوراقهم و تتبع مواطن القوة و الضعف في البيئة الاجتماعية التقليدية للأسرة و من ثم تتبع الأثار المترتبة على هذه المتغيرات و قد وجد المتخصصون في العلوم الاجتماعية للأسف أنهم لا يعرفون غير القليل على الأثار المترتبة عن العلاقة بين الأباء و الأطفال رغم مايعتري علاقة الأباء والأطفال من اضطرابات متواترة.
السبب الثالث:
يرجع إلى رغبة الآباء في أن يكونوا قريبيبن من معترك الحياة و المشاركة في التنشئة الاجتماعية لأطفالهم. و اتضح هذا من خلال المسوحات الحديثة كتلك التي أجراها شيلي.(117) لقد سعت الغالبية العظمى من الأباء الشبان إلى أن يكون لهم علاقات كاملة مع أطفالهم. كما أن الحركات النسائية المطالبة بالمساواة بالرجال استتبعها مطالبة المرأة لزوجها بأن يكون له دور أكثر فعالية داخل الأسرة لكي تتابع هي الأخرى مسيرتها خارج البيت.. و في مسح قومي جرى عام 1960 اتضح أن أزواج النساء العاملات ليسوا أكثر قضاء لأوقاتهم في رعاية الأطفال والبيت من هؤلاء المتزوجين من نساء غير عاملات و متفرغات لرعاية المنزل. و مع ذلك فإن المعلومات الأكثر حداثة تؤيد القول بأن أزواج النساء العاملات أصبحوا الآن أكثر اهتماما بهذا الشأن و إن كانوا يعتبرون أن مسؤولية الزوجات مسئولية أولية و أساسية .
السبب الرابع :
أنه على الرغم من ان الأمهات المتفرغات يقضين معظم أوقاتهن مع أطفالهن أكثر مما هوالوضع لدى العاملات إلا أن هناك مبالغة فيما يتصل بالتفاعل الاجتماعي بين الأمهات والأطفال الصغار فقضاء الأم لوقت طويل مع طفلها في حجرة واحدة لا يعني بالضرورة وجود تفاعل إجتماعي متواتر.
السبب الخامس:
أن النمو المعرفي و الاجتماعي المدروس ليس نتيجة تأثير أحادي الاتجاه من البالغين في علاقاتهم بالأطفال. بل قد لا تكون هناك علاقة قط بالقياس الى المؤثرات الأخرى . والاعتبارات العملية والنظرية تشير الى أن الوقت الذي يقضيه الطفل مع والديه مؤشر غير دال أو ضعيف الكفاءة في التنبؤ بعلاقة الطفل بكل من الأب و الأم.. وليس أدل على تلك الحقيقة من أن انفصال الطفل عن أمه الذي تقتضيه الواجبات اليومية للأم لا يؤدي الى اضطراب علاقة الطفل بالأم كما لا يوجد ما يدعو الى القول بأن انفصال الطفل عن أمه بسبب عمل الأم يؤدي الى تفسخ العلاقة أو اضطرابها.
أن نوعية التفاعل القائم و سلوك الراشدين له أهمية أكبر من الكم فسويعات قليلة تتسم بالتفاعل الدافئ و المرح تدعم الإحساس النفسي بالأمن عن العديد من الساعات التي يعيشها الطفل في مناخ غير مشبع يمتلئ بالمضايقات أو بتجاهل من الأب أو الأم.
وداخل الأسرة توجد شبكة من العلاقات و المؤثرات التي تمارس تأثيرها على الفرد فالأب على سبيل المثال يؤثر على الآخر (الطفل) بواسطة العلاقات القائمة مع و بتأثير الأفراد الآخرين في الأسرة كالأم حتى إذا كان التفاعل مع الطفل نادر الحدوث و التأثير المباشر قليل فسيظل التأثير غير المباشر يمارس دوره بصورة دالة.
وأصبح من الواضح الآن أن الطفل يلعب دورا فعالا في تشكيل التفاعلات الاجتماعية المكونة لمفاهيم الذات في المجال الاجتماعي . و لم يعد المختصون بالعلوم الاجتماعية يستخفون الان بقدرات الطفل على تحديد شكل العلاقات و معناها مع الأشخاص الآخرين وليس فقط مع الأم.ويوضح مخيمر هذا المعنى بقوله:" عندما نقوم بملاحظة (آخر) فإنه يصعب علينا أن نستبعد هذا الجانب من سلوكه الذي يرجع الى وجودنا في الموقف و سنجد أنفسنا بصدد علاقة ما بين (الأنا) و (الآخر) . فنحن لا نبلغ إلى الآخر (و لكن إلى علاقته بنا) "(87،16)
د. صلاح الدين السرسي