ضغوط التنشئة الاجتماعية وعلاقتها بالاضطرابات النفسجسمية
التشئة الاجتماعية تتمثل فى تلك العمليات والأساليب غير المرئية التى تشكل ضغوطا نفسية توجه الطفل خلال نموه داخل اطار بيئته الاجتماعية إلى تبنى معايير وقيم وتصرفات هذه البيئة الاجتماعية أو الجماعة الاجتماعية التى يعيش فى كنفها .
والتنشئة الاجتماعية عملية ضرورية كى يتمكن الطفل من التكيف مع حاجات العديد من الجماعات الاجتماعية التى يعيش فى مجالها ، حيث يدفع الوالدان والأهل الأطفال ليتطابقوا مع متطلبات البيئة الثقافية التى تتكون من شبكة واسعة ومتداخلة من الأنشطة والمعتقدات والقيم .
ونمو الكائن البشرى يرتبط بما تقدمه البيئة من حث وتشجيع ودعم عاطفى واجتماعى يتناسب وحاجات الطفل وقدراته . والتوافق بين الطفل والبيئة التى يحيا بها يتم من خلال الخبرات التى يمر بها الطفل فى هذه البيئة ، ثم عن طريق التوجيه من مصادر التوجيه الخاصة بكل طفل داخل هذا الإطار .
وتنشأ المخاطر المهددة لنمو الطفل من مصدرين :
المصدر الأول :
مباشر ؛ مثل افتقاد الطفل لفرص النمو البدنى كنتيجة لسوء التغذية وما يترتب عليها من مضاعفات أو التلوث البيئى ، أو البيئة غير الآمنة بالنسبة للأطفال كوجود البالوعات ، والحفر أو النفايات الضارة ، ومخلفات الورش والمصانع .
أما الثاني :
فيتمثل فى المخاطر الثقافية الاجتماعية المهددة لسير النمو ، والتى تشير إلى افتقاد أو اضطراب العلاقات بين الطفل والدوائر الاجتماعية التى يستمد منها الخبرة فى عالمه .
ومن المتعارف الآن أن البيولوجيا والمجتمع أو ( الطبيعة والتنشئة ) أو (الطبيعة والتطبع ) قد يعززان مسار النمو وقد يعيقانه .. فمن الممكن أن تعمل كل من الطبيعة والتنشئة فى تناغم واتساق ، ومن الممكن أيضا أن يتعارض كل منهما مع الآخر ، ويمتد خطر هذا التعارض لفرص النمو المتاحة .
ومن الممكن على سبيل المثال عزل أحد المورثات الذى يسبب إعاقة عقلية فيما قبل الولادة ، ونكون بذلك قد تغلبنا على محنة كانت حالَّةً لامحالة ، أو اكتشاف حالات الأطفال الذين يعانون من الفينايل كيتونوريا - أحد مسببات الإعاقة الذهنية - من خلال تحليل بسيط للطفل عند الولادة ثم تجنيبه الأغذية المحتوية على الألبان ومنجاتها بما فيه لبن الأم والبوتينات فيما بعد ، واعطائه البديل كلبن فول الصويا ، ونكون بذلك قد تجنبنا مصيراً غير سارٍ فى النمو . والعكس صحيح فقد تكون الظروف البيئية من القوة بحيث تلغي معظم الآثار المترتبة على العوامل البيولوجية ؛ كالطفل الذى يولد بنسبة ذكاء مرتفعة لكن بيئته فقيرة غير قادرة على توفير مثيرات تحفز هذا الذكاء وتوظفه ، ومحرومة ثقافيا واجتماعيا ، الأمرَ الذى سيكف قدراته ويحبطها .
وفى الحالات المثلى يمكن أن يُحَسِّن كل جانب ما ينشأ عن الجانب الآخر من أخطار على مسار النمو ، خصوصا فى الحالات المتطرفة . وهذا واحد من مفاتيح النجاح فى الخدمات الإنسانية .
والإجابة على الأسئلة المتعلقة بمشكلات النمو وفرصه تتطلب القدرة على تجاوز الظواهر المباشرة ، والنظر فيما وراءها ، وما هو متداخل معها .
فعلاقة الوالدين بالطفل تتأثر بطبيعة الحال بمكانة الوالد ودوره ، لكنها تتجاوز ما هو مباشر وتمتد إلى ما يضمه المجتمع من مؤسسات ونظم (كالأسرة ، والجيرة ، ومحل عمل الوالد ، ودور العبادة ، وحالة الاقتصاد الوطنى ، والمتغيرات السياسية والاقتصادية الحاكمة للعالم) فثمة نوع من التكيف يحدث بين كل هذه النظم والمؤسسات باستمرار ، وتلك القوى الاجتماعية هى مفاتيح التحليل البيئى ، إنها بالتحديد شبكة النظم الاجتماعية التى يرتبط كلٌ منها بالآخر فى مجرى النمو الإنسانى .
الخلاصة أن الكائن الإنسانى مجموعة من النظم والأنساق تتبادل التأثير والتفاعل فيما بينها بدءا من الكيان البيولوجى الذى بدونه لايكون ، وانتهاءً بالثقافة أو الأيديولوجيا السائدة فى المجتمع ، ثم التأثير القادم من محاولات هيمنة الثقافة الغربية وفرض مفرداتها على كافة مناطق العالم.
أزمة التنشئة الاجتماعية :
كانت المتغيرات الحاكمة للتنشئة الاجتماعية فى المجتمع العربى فيما قبل النفط مستقرة نسبيا فى ظل أوضاع اجتماعية حاكمة وحراك اجتماعى ضعيف (فرص انتقال فرد من طبقة إلى طبقة أخرى أعلى كانت محدودة) ، وكانت للبيئة البدوية سماتها ومتطلباها التى تنشأ الأطفال عليها ، وللبيئة الحضرية متطلبات مختلفة نسبيا وثقافة مغايرة إلى حد ما ، وإن كانت هناك قواسم مشتركة بين البيئتين تجمعهما فى ثقافة عامة واحدة من أهم ثوابتها الدين ، ومنه كان يكتسب الفرد مكانة متميزة أو متدنية حسب نصيبه من التنشئة بمعناها الواسع ومن التعليم النظامى الدينى بمعناه المحدد . بيئة ثقافية شبه ثابتة ، والضغوط البيئية التى توجه عملية التنشئة بسيطة واضحة التوجه ، محددة المعايير.
وظهر النفط ، وبدأ يأخذ مكانة متميزة فى الاقتصاد وفى السياسة فى خمسينيات القرن الماضى ، ثم امتد التأثير بسرعة على كل أفراد المجتمع فى ستينات القرن العشرين ، وبدأت الكثير من الثوابت تفقد توازنها ، خاصةً مع استقدام خبراء وعمال أجانب فى بداية الاستثمار الاقتصادى للنفط ، ثم إدراك القائمين على أمر هذه المجتمعات أهمية التعليم ـالمدني الحديث إن جاز التعبيرـ كي يأخذ أبناء البلد بزمام أمور المجتمع وشئونه .
هذه الدعوة ووجهت فى البداية بتشكك ومقاومة من القطاعات المحافظة فى المجتمع ، لكن بدأت أهمية هذا التوجه تتضح بسرعة مع تلاحق الأحداث التى ارتبطت بأطماع الغرب فى الثروة العربية ورغبته فى الهيمنة . ثم بدأ الاندفاع فى هذا التوجه يشكل ضغوطا عنيفة لم تكن البنية المجتمعية مهيأة بعد لاستيعابها . وبعد أن كانت الحزمة القيمية الحاكمة متناغمة ومتسقة من خلال المنظور الدينى أصبح المجتمع يعيش مجموعة من المتناقضات الشديدة بعد عودة الكثير من المبتعثين الذين تلقوا تعليمهم الجامعى وفوق الجامعى ، وبعضهم بدأ من التعليم الثانوى فى مجتمعات تتباين فى ثقافتها وقد تتعارض أحيانا مع الثقافة السائدة فى مجتمعنا . ثم جاءت الفضائيات بمختلف أطيافها وشبكة المعلومات الدولية بكل تشعباتها،لتشكل نقاط ضغط للثقافة الغربية ووسيلة غزو من الصعب مقاومتها لأنها تسللت إلى داخل غرف نومنا جميعا وفرضت علينا حضورا لا نستطيع التخلص منه.
أزمة التنشئة الاجتماعية تتمثل الآن فى غياب التوجه الرابط والموجه للضغط الاجتماعى الموجه بدوره لعملية التنشئة الاجتماعية ، افتقاد المجتمع للبوصلة التى تحدد اتجاه السير وتضارب بل وتعارض الأهداف المرجو تحقيقها ، وتناقض المعايير الأخلاقية فى الكثير من الأحيان ، ولتقريب هذا المعنى أضرب مثالا بسيطا ؛ فالرافد الأصلى لثقافتنا هو الدين الإسلامى ، والدين يعتمد على النصوص القرآنية والسنة المشرفة ، أى أن النص هو الفيصل فى الحكم على الأمور . الثقافة الغربية لا تعتمد على النص وانما العقل والتجريب، فى ثقافتنا نؤمن بالغيب ، والدين قائم فى مجمله على الغيبيات ، الثقافة الغربية تعتبر الغيبيات صنواً للتفكير الخرافى . هذه التناقضات تسببت فى ربكة حادة فى عملية التنشئة ، هذه الربكة لم يتصد لها ولاة الأمر التصديَ المطلوب بعد ، بل أصبح الأمر السائد هو التلفيق مثل بث الأحاديث الدينية ، ثم يعقب الحديث أغنية أو مسلسل . فى مناهجنا نركز على القيم الدينية ، ونتعايش مع بعض الأنماط الغربية . فإى التوجهات يمكن أن يغرسها الآباء فى أولادهم وبناتهم ؟ التغريب السطحى أم قيم تحتاج إلى رؤية اجتهادبة لم يقم على أمرها أحد بعد.
هذه الأزمة ولدت بدورها مجموعة من الأعراض كالاضطرابات السلوكية أو الأعراض العصابية أو الاضطرابات السيكوسوماتية التى هى موضوع هذه المقالة .
الاضطرابات السيكوسوماتية:
ثمة اتجاه قوى يتنامى بشدة يرى ضرورة تناول صحة الإنسان من خلال العلاقة التى تربط بين النفس والجسم والسياق الاجتماعى الذى يعيش فيه هذا الإنسان على النحو الذى أوضحناه ، وقد أكدت نتائج بعض البحوث كتلك التى أجراها "ترب" على أن كلاً من الظروف الاجتماعية والحالات النفسية ذات صلة وثيقة بصحة الجسد .
والضغوط التى يتعرض لها الفرد لاتتوقف على مرحلة عمرية بذاتها ، كما أن الإخفاق فى التأقلم معها يؤدى إلى معاناة الفرد وسوء تكيفه الذى يتبدى أحيانا فى صورة أعراض مرضية بسيطة ، وأحيانا أخرى فى صورة اضطرابات عضوية شديدة تبعاً لما يمتلكه الفرد من جهاز عصبى ، وما يتسم به من سمات شخصية ومدى إدراكه لحجم ما يمثله الضغط الواقع .
ونستطيع القول بدرجة كبيرة من الثقة ، ومن خلال نتائج العديد من الدراسات أن الأطفال يتحملون فى البيوت غير السعيدة والمتوترة التى تنتشر فيها الخلافات الزوجية والتناقضات القيمية واضطراب المعايير الأخلاقية والربكة النفسية ، إحباطات ومضايقات كثيرة احتياجاتهم غير مشبعة بشكل مرضى . ومن المحتمل ألا تشبع حاجاتهم الإنسانية فى الكثير من الأحيان إلا من خلال سلوك متطرف كالعدوان العنيف ، والخضوع التام ، والأعراض العصابية ، والاضطرابات السيكوسوماتية . وفى ظل هذه الظروف المربكة يُثَاب في الكثير من الحالات السلوك غير المتوافق اجتماعيا وغير الناضج انفعاليا ويتم تعلمه وتعميمه .
وقد ترتبط الأعراض السيكوسوماتية عند الطفل بنبذ أمه له أو توبيخها الدائم على انخفاض تحصيله المدرسى وإشعاره بأنه أقل من أترابه .
والعرَض السيكوسوماتى يشير إلى مرض جسمى أو خلل فى وظيفة من وظائف الجسم تتحدد إلى حد ما باضطراب نفسى . وعلى الرغم من أهمية وجود استعداد تكوينى أو جِبِلِّى للخلل السيكوسوماتى ؛ إلا أن العوامل النفسية كثيراً ما تلعب دورا مهما فى التعجيل بهذا الخلل أو الاضطراب . ومن الاضطرابات الجسمية نفسية المنشأ الشائعة فى الطفولة المتوسطة والمراهقة : الربو ، وقرح القولون ، والاضطرابات الجلدية والتهاب المفاصل الروماتيزمية .
ومن نافلة القول أن علاج الأمراض السيكوسوماتية لابد أن يضع فى اعتباره الجانبين الجانب الجسمى والجانب النفسى ، الذى قد يكون له الأهمية الكبرى في حالة الشفاء .
المراجع
1- إيناس عبد الفتاح ومحمد نجيب : ضغوط الحياة وعلاقتها بالأعرض السيكوسوماتية وبعض خصال الشخصية لدى طلاب الجامعة - مجلة دراسات نفسية - رابطة الاخصائيين التفسيين المصرية - القاهرة يوليو 2002.
2- بدر عمر العمر : أثر بعض المتغيرات الشخصية والأسرية والمدرسية على مصادر ومظاهر الضغوط النفسية - دراسات نفسية - رابطة الإخصائيين النفسيين المصرية - القاهرة ابريل 2004.
3- بسيونى بسيونى السيد سليم و عبد المحسن عبد الحميد ابراهيم : مدى المعاناة النفسية لدى أطفال ماقبل المرسة من الجنسين - دراسات نفسية- القاهرة يناير 1996.
4- جون كونجر وآخرون : سيكولوجية الطفولة والشخصية - ترجمة - دار النهضة المصرية - القاهرة 1990
5- صلاح الدين السرسى : الآثار النفسية لغياب النموذج الأبوى - دراسة دكتوراة غير منشورة - كلية الآداب -جامعة عين شمس 1985 .
6- محمد أحمد النابلسى و وسيم قلعجية : التشخيص السيكوسوماتى متعدد المؤشرات - دراسات نفسية - القاهرة ابريل 1998 .
7-Fred Worth : Socialization Issues : http://www.hsu.edu/faculty/worthf