تدعيم التعلم لدى الطفل

كاتب المقال: الإدارة
التاريخ: الثلاثاء, يونيو 16, 2015 - 11:14

تعرف الاثابة او التدعيم بانها طائفة الوقائع التى تسهل التعلم. ذلك ان الاستجابة ان كانت تؤدى الى واقعة او حالة من شأنها ان تشبع الحاجة, اراب على ذلك أن تؤدى هذة الواقعة (التى تسمى الاثابة) الى تقوية الاستجابة. مثال ذلك ان صراخ الطفل الجائع ان كان يؤدى الى تقديم الغذاء مباشرة لة , جاز لنا ان نقول ان استجابة البكاء او الصراخ تتقوى وتتدعم لانها تؤدى الى هدف الطعام المثيب.
والطعام والماء والنوم والدفء تسمى بالاثابة الاولية لانها تشبع حاجات اولية. لكن هناك مع ذلك ادلة تشير الى ان هناك عدة انواع معينة من المثيرات سارة او مشبعة بطبيعتها , وان لم تكن لازمة من اجل بقاء الكائن الحى واحتفاظة بحياتة . من ذلك استثارة المنطقة التناسلية والاتصال اللمسى بالنسبة للرضع وهذة المثيرات تعد الوان ثواب فطرية او غير متعلمة على اساس ان الاستجابة التى تعقبها هذة الطائفة من المثيرات تزداد قوة . ولذلك نقول ان هناك انواعا اولية من الاثابة ليست مرتبطة ارتباطا مباشرا بالحاجات الاولية (اعنى بتلك الحاجات المتصلة باحتفاظ الفرد بحياتة).
وكما ان هناك حاجات او دوافع متعلمة (من قبيل الشهرة والتقبل والنقود) نجد هناك انواع متعلمة من الاثابة . من ذلك ان الهاتف الجوال ليست لة قيمة اثابية ( (reward value بالنسبة للرضيع ولا بالنسبة لسكان الاحراش وانما القيمة الاثابية لهذا الشئ امر ينبغى تعلمة. ففى حالة الدافع الى التحصيل الاكاديمى قد يصبح الثواب شيئا من قبيل الحصول على درجات عالية فى التقرير المدرسى . كذلك فى حالة حب الطفل لامة , نجد الاثابة المتعلمة هى وجود الام.
والاثابة المتعلمة تحدد بانها طائفة من المثيرات قد اكتسبت قيمة موجبة بسبب انها تشبع دافعا من الدوافع . ولهذا فان الاثابات المتعلمة تؤدى وظيفة (incentives) الحوافز , كما ان كل استجابة تؤدى الى الحصول على اثابة متعلمة تتدعم وتزداد قوة.
والمثيرات لا تكتسب قيمة اثابية الا اذا ارتبطت بوقائع قد اصبحت بمنزلة الاثابات . والامثلة الطريفة التى تبين لنا كيف ان النقود تكتسب قيمة اثابية حتى بالنسبة للحيوان قد قد لخصها ميللر فيما يلى :
"أراد الباحث ان يخلع على الفيشات (فيشات البوكر) قيمة اثابية, فجعل يدرب الشمبانزيات الجائعة على ان تضع هذه الفيشات فى صناديق البيع الالية لتحصل على حبة من الزبيب مقابل كل فيشة . ثم اراد ان يختبر القردة اختبارا مبدئيا وان يزيد من تثبيت القيمة التدعيمية, ففرض على الشمبانزى ان تكد وتعمل من اجل الحصول على الفيشة بأن تشد ذراعا تحمل وزنا له ثقلة. كذلك كان يسمح للشمبانزيات فى بادئ الامر ان تحول الفيشة مباشرة ورأسا الى حبة زبيب , ولكنة اخذ بعد ذلك يضطر القردة الى ان تدخر عشرين فيشة من قبل ان تتمكن من صرفها.
ثم اراد المجرب ان يتعرف على ما اذا كانت فيشات البوكر يمكن استخدامها كإثابة متعلمة فأخذ القردة الى غرفة اخرى حيث وجدت نفسها بأزاء صندوقين . فان هى فتحت الصندوق الواقع الى يسارها وجدت احدى الفيشات , أما ان وجدت الصندوق الواقع الى يمينها وجدتة فارغا ولم تحصل على شئ . وفى سرعة تعلمت القردة ان تفتح الصندوق الواقع الى اليسار على الرغم من انه لم يكن يسمح لها ان تستبدل بالفيشات طعاما الا عند انتهاء فترة التدريب اليومية . ثم كان اليوم التالى فغير المجرب الاجراء وجعل يدرب القردة على اختيار الصندوق الواقع الى اليمين بدلا من اليسار لكى تحصل على ما تطلب من الفيشات .
وفى التجارب التالية قام المجرب بتعليم القردة طائفة متنوعة من العادات التى هى اكثر تعقيدا . من ذلك ان المجرب كان يتحكم فى القيمة الاثابية لهذه الفيشات بان يعطى للحيوان فيشة من النوع الذى ارتبط بالطعام ان استجاب الحيوان الاستجابة الصحيحة وفيشة من نوع اخر مختلف تعلم الحيوان انه لايمكنة ان يستبدل بها طعاما ان هو استجاب استجابة غير صحيحة . وقد دلنا تعلم الحيوان للاستجابة الصحيحة تحت هذه الظروف ان القيمة الاثابية للفيشة متوقف عل ارتباطها السابق بالاثابة الاولية وهى الحصول على الطعام عند الجوع .
والنقود تكتسب قيمتها الاثابية عند الاطفال بنفس الطريقة التى تتم بها فى تجاوب الشمبانزى . ذلك ان النقود ذاتها لا تكتسب قيمة اثابية عند الطفل الا بعد ان يتبين ان ريالات ابيه ودراهمه يمكن ان يستبدل بها متعا اولية من قبيل اقماع الجيلاتى والحلوى واللبان (العلك) . ولعلنا نلاحظ ان تعليم الشمبانزى ادخار عشرين فيشة من قبل ان يقوم بانفاقها قد لا يزيد فى صعوبتة عن تعليم الطفل كيف يحتفظ بقروشه ودراهمه الى ان يتجمع له منها قدر كاف "يشترى به ما هو فى حاجة الية فعلا".
والنقود بعد ان تكتسب قيمة اثابية, يصبح من الممكن استخدامها للتدعيم , لا لتدعيم استجابات من قبيل فتح الصناديق, وانما لتدعيم استجابات اكثر نفعا, مثل ترتيب الاسرة واخراج صفيحة من القمامة من البيت, او شراء احتياجات الاسرة من الخبز والحليب وما الى ذلك . بل ان النقود قد تستخدم لتشجيع الطفل على ان يكون "ولد طيب" .
واما بالنسبة للكبار الراشدين فان النقود تتدفع ما لا حصر له من الناس الى ان يشتغلوا ببناء المنازل او السير على الحبل فى السيرك او صيد الثعابين الخ.
على ان هناك امثلة اخرى عديدة على الاثابات المتعلمة من حضارات الانسان ومجتمعاته . من ذلك ان الميداليات والكؤوس والدرجات العليا فى المدرسة , والربت على الظهر , وحق استخدام سيارة الاسرة والترقيات والعلاوات يمكن ان يكون لها قيمتها الاثابية. ومن البديهى ان الشئ لا يمكن ان يؤدى الى اثابة الا اذا كان لدى الكائن الحى دافع نشط يمكن اشباعه بالحصول على هذا الشئ . ولعل هذا اوضح ما يكون بالنسبة للاثابة الاولية. فاننا لا نفكر ابدا فى تقديم الطعام للفرد العطشان , او فى تقديم عروس للشاب الذى يشكو شدة الجوع من اجل ان نثيبة . على ان هذا المبدأ لا يكون واضحا ظاهرا على الدوام فى حالة الاثابات المتعلمة. مثال ذلك اننا كثيرا ما نفترض ان بعض الاشياء المعينة مثيبة فى ذاتها بالنسبة لكل الاطفال بسبب انها تستخدم كمثيبات لمعظم الاطفال . لكنة لما كان الاطفال يختلفون فيما بينهم من حيث ما مر بهم من خبرات تعلم , وجدنا الاطفال يختلفون فيما بينهم كذلك من حيث الدوافع. ولذلك نجد ان المثيبات الواحدة لا تشبعهم جمبعا بدرجة واحدة. من ذلك ان المدح قد يفيد كثيرا فى اثابة الاطفال الذين هم فى حاجة الى التقبل الاجتماعى ولا يفيد بالنسبة للاولاد الذين هم فى حاجة طاغية الى ان يقنع نفسه ويقنع الاخرين بأنة "ولد رجال" لا "الطفل المدلل من امه" . كذلك لا يمكننا ان نتوقع من الطفل الغنى الذى هو بحاجة الى الحب والتقبل ان يتعلم شيئا عن طريق تقديم المال اليه على سبيل الاثابة. كما انه من المتعذر علينا ان نحمل المراهق الريفى _ الذى لا يشوقه ان يتعرف على ما يدور فى المحافظة المجاورة_ على الانخراط فى سلاح البحرية بأن نعدهم بمباهج السفر والمغامرات. وعلى الجملة نقول ان الشئ لا يكون مثيبا الا ان كان يمكن استخدامه الى درجة ما على الاقل فى اشباع حاجة او دافع نشط.
الى هنا نكون قد عرفنا وحددنا العوامل الاربعة الاساسية فى التعلم .اعنى انة لابد لكى يتم التعلم فى معظم الحالات , لا فى جميعها على الارجح, من ان يكون هناك مثير او امارة ثم اسجابة ثم حاجة او دافع ثم اثابة. لكن هناك مع ذلك عددا من المبادئ الاضافية التى لا بد من التعرف عليها وفهمها حتى نتمكن من تحليل تفاصيل السلوك المتعلم تحليلا مفصلا.

منحنى التدعيم:

ينص هذا المبدأ على انة كلما اعقبت الاثابة استجابة الحيوان بصفة مباشرة , ازدادت قوة الرابطة بين الامارة والاستجابة .
فلو فرضنا اننا نريد تعليم الطفل ان ينظر الى اليسار ثم الى اليمين من قبل ان يعبر الشارع, لوجب علينا, بمقتضى هذا المبدأ الذى ذكرناه, ان نقوم باثابة استجابة النظر والتطلع بمجرد حدوث الاستجابة (منحنى التدعيم). ولو اننا اتبعنا هذا الاجراء, لازداد احتمال تعلم الطفل القيام بالاستجابة الصحيحة مما لو تأخرنا فى تقديم الاثابة وانتظرنا الى ان ينتهى الطفل من لعبه ويعود الى البيت.

المواقف الجديدة_ مبدأ التعميم:

الطفل الذى تعلم ان يمضى الى الثلاجة فى بيتة ليلتمس شيئا من الطعام عند الجوع, يتوقع منه حين يحس بالجوع فى بيت جدته ان يسعى الى الثلاجة كذلك. كما ان الطفل الذى تدرب على تجنب المدفأة الحارة او الموقد المشتعل فى بيته من شأنة كذلك ان يميل الى تجنب المدافئ والمواقد فى غير ذلك من البيوت. فكيف يحدث ذلك؟ ان المثيرات والامارات ليست متطابقة متساوية تماما فى كل من البيتين. ولماذا لا يضطر الطفل الى تعلم الاستجابة مرة اخرى فى هذا الموقف الجديد؟ الاجابة عن هذا السؤال تتطلب افتراض مبدأ اخر هو مبدأ تعميم المثير. وهذا المبدأ ينص على انة اذا كانت الاستجابة قد تم تعلم القيام بها فى مواجهة المثيرات المشابهة. وكلما زادت المشابهة من المثيرات الاصلية والمثيرات فى الموقف الجديد, زاد احتمال وقوع الاستجابة .

العوامل التى تحدد التشابه بين المثيرات:

لا شك ان عوامل اللون والحجم والشكل ذات اهمية بالنسبة للاشياء. بمعنى ان الطفل الذى تعلم اولا ان يمد يدة الى زجاجة الرضاعة الزرقاء يكون اكثر ميلا الى التماس زجاجة بنفسجية منه الى التماس زجاجة حمراء. لكن الطفل يتعلم اللغة بعد ذلك وعندئذ تصبح الرموز اللفظية التى نطلقها على الاشياء بمثابة العوامل الاساسية التى تحدد التشابه . او بعبارة اخرى نقول ان الاسم الذى يطلق على الشئ هو اهم الاسس التى تحدد عملية التعميم.
فكلمة "كلب" تعنى عند الراشد من الكبار كل انواع الكلاب التى تتفاوت فى الشكل فيما بين الافغانى الابيض والبكنجيز الضئيل. وذلك على الرغم من ان القطة اقرب من الافغانى الابيض الى البكنجيز الضئيل من حيث الخصائص المادية الموضوعية. ولهذا نقول ان الطفل اذا تعلم تعميم الاستجابة التى يستجيب بها للكلب من نوع (الكولى ) الى تلك الانواع من الكلاب التى تكون شبيهه شبها ماديا فقط بالكولى, ترتب على هذا ان يصبح الطفل محدود بالنسبة لانواع الحيوانات التى يستجيب لها بوصفها كلابا. ذلك لانه من غير المحتمل ان ينصب التعميم على استجابة تعلمها الطفل للكلب من نوع الكولى بحيث تشمل الكلاب من نوع البكنجيز الضئيل على اساس من التشابه المادى بين النوعين فقط. أما ان كان الطفل قد علمه والده ان "الكولى" نوع من الكلاب, ترتب على هذا ان تصبح كلمة "كلب" جزءا من الموقف المثير الشامل, شأنها فى ذلك شأن الخصائص الجسمية للحيوان.
بحيث يصبح من المحتمل فى المستقبل ان يقوم الطفل بتعميم الاستجابات التى تعلمها بازاء الكولى الذى تربى فى بيته (مثل الربت على ظهرة, وتوقع النباح منه) بحيث تشمل كل انواع الحيوان التى تشبه الكولى فى خصائصه الجسمية, بل وكذلك كل انواع الحيوانات التى تطلق عليها كلمة "كلب" . وقد اصطلح علماء النفس على تسمية الحالات التى يكون فيها الرمز اللغوى (مثل كلمة كلب) اساسا للتعميم بالتعميم المتعلم او الذى تتدخل فيه عوامل متوسطة (learned or mediated) .
وكلما اقترب الطفل من سن دخول المدرسة الابتدائية اخذت اللغة تصبح اهم مصادر الامارات والمنبهات عنده واصبحت الاشياء التى لها اسماء متشابهة (معانى متشابهة) تكون الاساس الذى تقوم علية عمليات التعميم الكثيرة . مثال ذلك ان الطفل ان تعلم استجابة احترام الناس الذين هم اكبر سنا, اصبح من المحتمل ان يقوم بتعميم هذة الاستجابة بحيث تشمل كل الناس الذين يسميهم "اكبر سنا" , بغض النظر عن جنسهم (من حيث الذكورة والانوثة) . او طول قامتهم او وزنهم او لون بشرتهم او خصائصهم الجسمية عامة.
ومبدأ التعميم المتوسط هذا مبدأ هام_ كما سنرى _ فى النمو وسوف نشير اليه كثيرا فى مناقشاتنا المستقبلية.
كما ان عملية التعميم, ظاهرة فى غاية النفع والأهمية بسبب اننا لا نكاد نجد موقفين مثيرين متشابهين تمام التشابه. بحيث ان الناس لا يكاد يمكنها ان تفيد من خبراتها السابقة ما لم تلجأ الى عملية التعميم. لكن هذا لا ينفى بالطبع ان التعميم قد تكون له جوانبه السلبية كذلك. مثال ذلك ان الطفل قد يتعلم ان يستجيب لمعلم ما بالاستياء بسبب قسوتة وتبذه للطفل, ثم تجده وقد عمم استجابة الاستياء والكراهية هذة للمعلمين الاخرين بصرف النظر عما اذا كان هناك ما يبرر هذه الكراهية او لا.
والتعميم فى بادئ الامر عملية تميل الى التوسع و الانتشار. بمعنى انك تجد الطفل الذى تعلم إطلاق لفظ "الكلب" على ذلك الحيوان الذى يربى فى منزله, تجده وقد جنح الى اطلاق هذا اللفظ على كل حيوان ذى اربعة اقدام يراه فى الشارع. وهكذا تجده يسمى اول بقرة او اول حصان يقابله كلبا. ولكن مدى هذا التعميم يأخذ فى التناقص تدريجيا حتى يقتصر الأمر فى النهاية الى اطلاق هذا اللفظ اطلاقا صحيحا على الكلاب فقط. واصلاح هذا الميل المبدئ الى المبالغة فى التعميم يعرف بعملية التمييز وهى عملية تقويم على اساس استبعاد او انطفاء الاستجابة التى صدرت عن التعميم الخطأ.

الانطفاء:

الاستجابة التى يتعلمها الفرد لا تبقى بالضرورة على حالها من القوة. بمعنى ان الطفل قد يتعلم التماس زجاجة الرضاعة والسعى اليها ثم لا يعود يسعى اليها ولا يمد يده لها ان وجد نفسه لا يحصل علي طعام منها. عندئذ نقول ان الاستجابة قد انطفأت. وفى هذا يقول ميللر ودولار "ان التدعيم اساسى لبقاء العادة. ذلك ان الاستجابة المتعلمة اذا تكررت بدون تدعيم, تعرض الميل الى القيام بهذه الاستجابة الى تناقص فى قوتة . وهذا التناقص يعرف...بالإنطفاء". وبعبارة اخرى نقول ان الاستجابة المتعلمة اذا لم تؤد الى اثابة, فان الامر ينتهى الى استبعادها او انطفائها.
لكن انعدام الاثابة ليس وحده السبب الذى يؤدى الى تناقص احتمال حدوث الاستجابة.

التنظيم الهرمى للاستجابات:

نشير بهذة التسمية الى ما ثبت من ان الطفل يكون بمقدوره فى اغلب المواقف الجديدة القيام بطائفة متنوعة من الاستجابات. وان كل واحد من هذة الاستجابات تكون لها درجة معينة من القوة (اعنى ان كل استجابة لها درجة احتمال وقوع خاصة بها) كما ان القوة النسبية لكل واحدة من هذة الاستجابات تحدد لنا مدرج الاستجابات.
على انه كلما تقدم بالفرد العمر, اخذت بعض الاستجابات تتناقص قوتها واخذ بعضها الآخر يزداد قوة. اى ان مدارج الاستجابة تتغير بتقدم العمر. مثال ذلك ان الطفل يتعلم التماس زجاجة الرضاعة ومد يده اليها وامتصاص حلمتها لأن هذة الاستجابة تثاب. ولذلك كانت هذة الاستجابات اقرب الاستجابات الى الظهور حين يجوع الطفل. لكنة ما ان يصل الطفل الى ما يقارب العامين من العمر حتى يلجأ الأبوين الى الضغط عليه من اجل ان يتخلى عن عادة الرضيع وهى امتصاص الحليب من الزجاجة والى تشجيعه على شرب الحليب من الكوب حين يجوع. ثم ان الطفل قد يبدأ فى توقع غضب الابوين او عقابهما حين يفكر فى امتصاص الحليب من الزجاجة, وعندئذ تبدأ استجابة جديدة, وهى الميل الى الشرب من الكوب, تنافس الاستجابة القديمة التى هى طلب الزجاجة. ثم ان الدافع الى تجنب سخط الوالدين قد يصل الى درجة كافية من القوة, عندئذ يعتمد الطفل الى كف الاستجابة القديمة وتعطيلها ويبدأ فى شرب اللبن من الكوب. كذلك قد تكون هناك عدة استجابات بديلة (alternative) من الميسور استخدامها فى اشباع الحاجة او الدافع (مثال ذلك ان يطلب الطفل كوبا من الحليب او زجاجة من الحليب يرضع منها) عندئذ نجد ان الاستجابة التى تحدث فعلا هى تلك الاستجابة التى تتميز بأكبر درجة من القوة التى لا يرتبط بها الا اقل قدر من الخوف او القلق. وعلماء النفس حين يتحدثون عن مدارج الاستجابات يستخدمون ثلاثة مصطلحات او تعبيرات هى : مدارج الاستجابة الفطرية , والمبدئية , و الناتجة.
ولعل افضل سبيل الى توضيح هذة المصطلحات هو ان نقدم المثال التالى. والمثال مأخوذ من حالة الطفل الصغير الذى يخضع لعملية تدريب على ضبط عادة الاخراج. فى هذه الحالة, وقبل ان يبدأ التدريب, نجد المثيرات الصادرة عن امتلاء المثانة مؤدية الى التبول مباشرة مع عدم اعتبار تقريبا للاستحسان الاجتماعى. صحيح ان هذة المثيرات قد تؤدى الى استجابة اخرى بالطبع_ من قبيل التململ وقلة الاستقرار. ولكن الذى لا شك فيه ان هذه المثيرات لا تؤدى بالطفل الى الذهاب الى الحمام. وفى ذلك يقول ميللر ودولارد اننا نجد هناك استجابات عدة متنوعة ميسورة من قبل ان يبدأ التدريب وان كل واحد من هذه الاستجابات تكون لها درجة احتمال حدوث. وترتيب هذة الاستجابات من حيث درجة احتمال وقوعها يسمى بالمدرج المبدئى (initial hierarchy) . لكنه ما ان تتم عملية التدريب على ضبط عادات الاخراج بنجاح حتى نجد هذا الترتيب من الاستجابات وقد تغير. واذا بالمثيرات الصادرة عن المثانة الممتلئة وقد اصبحت تؤدى بالطفل الى التوجة نحو الحمام بدلا من التبول على الفور. والمدرج الجديد الناتج عن التعلم يسمى بالمدرج الناتج (resultant hierarchy) على انه كثيرا ما يكون ترتيب الاستجابات فى المدرج المبئى نتيجة لعملية تعلم سابقة فى مواقف مماثلة. لكن هناك مع ذلك حالات اخرى لا يكون فيها الترتيب بين الاستجابات مبنيا على اساس التعلم السابق وانما على اساس الوراثة او العوامل التكوينية. عندئذ يمكننا ان نسمى المدرج المبدئى بالمدرج الفطرى (innate hierarchy) . من ذلك ان بعض الاصوات (مثل الهمزة المكسورة) تحتل منزلة فى المدرج الفطرى عند الرضيع تعلو على منزلة اصوات اخرى (مثل الباء) وذلك كما سنتعرض لذلك لاحقًا. لهذا نجد انه من الاسهل على الطفل ان يستجيب للامارات المختلفة (مثل صورة وجه الام او اقتراب زجاجة الحليب) ببعض الاصوات دون بعضها الاخر.
على ان التغير فى الترتيب بين الاستجابات فيما بين المدرج المبدئى والمدرج الناتج دليل على ان التعلم قد حدث. كما انه دليل على ان بعض الاستجابات فى المدرج المبدائى قد وجدت من الاثابة اكثر مما وجدت الاستجابة الاخرى وانها بالتالى قد ازدادت قوة واصبح احتمال وقوعها اكبر.
ولفكرة مدرج الاستجابات تطبيقات عملية متعددة, نذكر فيما يلى واحدا منها فقط. لو ان طفلا فى الخامسة من عمره تعلم ان عملية توجية الاسئلة هى اكثر ما يثاب من بين اساليب اجتذاب انتباه الابوين, لوجدنا هذه الاستجابة وقد ارتفعت منزلتها فى مدرج الاستجابات فى مثل هذا الموقف. ولكننا لو فرضنا ان الابوين كانا فى لحظة من اللحظات فى شغل زائد يحول بينهما وبين الاجابة عن اسئلة الطفل, لكان معنى هذا انهما توقفا عن اثابة الاستجابة التى يقوم بها الطفل وهى توجيه الاسئلة اليهما. والذى يترتب على هذا ان هذه الاستجابة المتعلمة يطرأ عليها الضعف وتنحدر الى مرتبة ادنى فى مدرج استجابات الطفل. على حين ان الاستجابات القديمة التى كانت قد اثيبت فى مرحلة اسبق من حياة الطفل مثل البكاء ونوبات الغيظ (temper tantrums) قد تصبح عندئذ اقوى الاستجابات واقربها الى الوقوع . وتسمى العودة الى صور اكثر قدما وبدائية من الاستجابات بالارتداد والنكوص .

الاستجابات الاستباقية:

لعلك تتذكر ان استجابة الامتصاص تحولت فأصبحت مرتبطة بالجرس ذى الطنين فى التجربة التى قامت بها دوروثى ماركيز على تغذية الرضيع بعد ان ظل تقديم الطعام يتبع دق صوت الجرس . ولعلنا نذكر ايضا ان استجابة المص لم تكن تحدث فى البداية الا بعد ان يتم تقديم الطعام بالفعل. ولكنه بعد ان تقدم التعلم بدأت استجابة المص تحدث بمجرد ان يتم دق الجرس ومن قبل ان يقدم للرضيع اى طعام. فكأن ما حدث خلال التجربة هو ان استجابة الامتصاص والتوقف عن البكاء اخذت تظهر فى وقت مبكر من مجرى الاستجابات (response sequence ) او بعبارة اخرى نقول انها اخذت تتقدم فى ترتيب الاستجابات ترتيبا زمنيا_ اعنى انها اصبحت استباقية.
والاستجابة الاستباقية عامة شائعة فى التعلم. من ذلك ان الطفل الذى يتعلم ركوب الدراجة لا يميل بجسمه فى الاتجاه المضاد الا بعد ان يجد نفسه وقد كاد يقع على الارض. لكنه يتعلم بعد ذلك وبالتدريج ان ينحنى ويميل قليلا فى الاتجاه المضاد بمجرد ان تبدأ الدراجة فى الوقوع. وبعبارة اخرى نقول ان استجابة الانحناء للتصحيح تصبح استباقية. على ان بعض الاستجابات الاستباقية لا يكون لها من النفع ما رأيناه فى مثال تعلم ركوب الدراجة, وخصوصا تلك الاستجابات التى تقوم على استباق الألم او القلق. ومثال ذلك الطفل الذى يكون بصدد تعلم الغطس. تجدة فى بادئ الامر لا يغمض عينية الا بعد ان يشعر بالألم وهو يضرب الماء. ولكن هذة الاستجابة تظل تتقدم وتتحول الى استباقية بدرجة اكثر واكثر الى ان يصل الحال_ على حد تعبير مدرب الغطس_ واذا الطفل يمضى الى نهاية اللوح الخشبى فيغمض عينيه ويرجوا خيرا. الخلاصة اذا ان الاستجابات التى ترتبط بالاثابة او الألم قد تتقدم وتتقدم فى الترتيب الزمنى للاستجابات (اى تتحول الى استجابات استباقية), وبذلك تتأثر كفاءة السلوك فى المستقبل.

 

 

 

 

 

د . صلاح الدين السرسي 

سجل دخول أو إنشئ حساب جديد الأن لإضافة تعليق.