الأم والأسرة - نعيم الطفل وضناه -
عرفنا من خلال المقالات السابقة أن الأم تكتسب أهمية خاصة لدى الطفل كما أنها مصدر للعديد من الإثابات الأولية له ، كالطعام ، والاتصال اللمسى ، والدفء ، والتخفف من اللأم . رغم هذا فثمة احتمال بوجود أنواع أخرى من الإثابة لها أسس بيولوجية تزود الأم طفلها بها . ففى موقف التغذية العادى نجد أنواع من الإثابة هى الطعام والاتصال اللمسى . ووفقًا لمبادىء التعلم نستطيع أن نتنبأ بأن الطفل يمكنه تعلم عدد من الاستجابات الجديدة فى موقف التغذية . فى البدء ، يشعر الطفل بالجوع فيستجيب لوخز الجوع هذا بالبكاء والصراخ . عندئذ تهرع الأم لتحمل الطفل وترضعه . من خلال هذا الموقف نجد الطفل محاطًا بكل المنبهات أو المثيرات البصرية والشمية والسمعية التى تعتبر جزء لا يتجزأ من موقف التغذية ، إبان تلقيه للإثابات المتمثلة فى الطعام والاتصال اللمسى . ووفقًا لقوانين التعلم فإن المثير أو المنبه الجديد الذى يقترن اقترانًا زمنيًا بإثابة ما ( كالطعام أو الملامسة الجلدية ) يصبح هو نفسه ذا قيمة إثابية . وعلى هذا الأساس فإن الأم باعتبارها مثيرًا أو منبهًا ، تتحول عن طريق التعلم لتصبح دليلاً على المتعة والرضا أى أنها تصبح ذا قيمة اثابية موجبة تكون بمثابة نعيم الطفل وهناءه . وسوف يتعلم الرضيع أن الاقتراب من مصدر اللذة هذا والتماسه سوف يؤدى به الى الإشباع الفعال لحاجاته فى أقل زمن ممكن ومن غير ارجاء . فالطفل يتعلم استجابة هامة تتمثل فى البحث عن أمه والتوجه إليها كلما شعر بوخز الجوع .
ووفقًا لمبدأ تعميم المثير ، تميل الاستجابة التى تعلمها الطفل لمثير معين إلى أن تظهر لمثيرات أخرى مشابهة للمثير الأصلى . ولأن هناك مصادر أخرى قد تسبب الألم أو افتقاد الراحة ( كإصابة الطفل بجرح أو بالبرد أو بالمرض ) تتشابه الى حد كبير مع ألم الجوع لذلك يستجيب الطفل لها بنفس الاستجابة التى يستجيب بها للجوع . فالطفل الذى يتوجه الى الأم عندما يشعر بالجوع يتعلم أن يتوجه لها كذلك طلبًا لإشباع حاجاته حين يشعر بالألم أو انعدام الراحة لأسباب أخرى . ولأن الأم تشبه سائر الناس فهذا يعنى أن الطفل لابد وأن يقوم بتعميم سلوك التوجه عنده بحيث يتوجه الى عدد كبير من الأشخاص كذلك.
معنى هذا أن موقف التغذية الأصلى يمكن أن يتخذ أساسًا ترتكز عليه عملاية تعلم جديدة يتعلم الطفل من خلالها ما إذا كان للناس قيمة اثابية أم لا ، وما إذا كان التوجه نحوهم يؤدى الى اشباع الحاجات أم لا .
ولنا أن نتساءل هنا ماذا لو كانت خبرة التغذية الأولى خبرة غير مثيبة ، أو مقفًا يمكن أن يرتبط فيه الألم بفعل التغذية ، أو لا يتم فيه الا النذر اليسير من الاتصال البدنى بالأم ؟ فالأم القلقة المتوترة قد تمسك بطفلها بطريقة غير سليمة تؤدى إلى شعور الطفل بعدم الراحة . كذلك الم التى لم تكن تريد هذا الطفل أصلاً ، ربما تكره ما تنطوى عليه العناية بالطفل من مشقة ومضايقات. هذه الكراهية قد تبدو فى تناول الرضيع بخشونة وغلظة ، أو فى إيقاف عملية التغذية قبل حصول الطفل على مايشبع جوعه ، وقد يترك الطفل للبكاء لفترة طويلة قبل أن تقدم الأم له الطعام . فى مثل هذه الحالات تكون خبرة الطفل خبرة سيئة يشعر فيها بشىء من الألم وشىء من اللذة مرتبطين بالأم ومنبه الجوع . فإن تكررت منبهات الألم بدرجة كبيرة ولفترة طويلة نسبيًا من الزمن ، نتج عن هذا اكتساب الأم لقيمة سلبية ، وأصبحت رمزًا للألم لا للذة . ولأن الاستجابة الطبيعية الفطرية للكائن العضوى للألم هى الابتعاد عنه وتجنبه ، فقد يتعلم الطفل استجابة الابتعاد عن الأم بدلاً من التوجه إليها . كما يصعب عليه أن يتعلم التوجه إلى الناس والإقتراب منهم ، حين يكون فى حالة انعدام الراحة ، كوسيلة لإشباع الحاجات . وإذا كان موقف التغذية قد ارتبط عند الطفل باللذة والسرور فى أغلب المرات ، ازداد ميل الطفل إلى التماس اشباع حاجاته عند الآخرين .
من هنا يرى بعض المفكرين أن الاتجاهات الاجتماعية من ثقة بالناس وميل إليهم أو عدم الثقة بهم والشعور بالعداوة نحوهم تنشأ من علاقات الطفل بالآخرين خلال السنة الأولى من العمر . فالأفعال الاجتماعية التى يتعلم الطفل من خلالها الاستجابة بها لمن يقوم بأمر رعايته وتنبيهه تنبيهًا اجتماعيًا تتعرض للتعميم أى أن الطفل يعود فيستجيب بها بعد ذلك لغير الأم من الأشخاص .
فالسلوك الاجتماعي ينمو في المراحل الأولى من حياة الرضيع من خلال تفاعله مع الآخرين ورؤيته لهم وهم يهشون له ويبشون أو يناغون ويربتون على جسمه أو شفتيه.
وهو يتلهف فى شهره الثانى على الإنصات إلى الأصوات التي يستمع إليها، وخاصة صوت أمه، كما انه يبتسم لها عندما تداعبه أو تضاحكه أو تلبي حاجته بإدخال حلمة الثدي إلى فمه لمصها والإحساس بدفء حنانها عليه وتلبية حاجته إلى الرعاية والاهتمام به.
كما انه يشعر الدفء والحنان عندما يرفع أو يقمط أو يربت على كتفه أو عندما تغني له أمه لتنويمه.
ويشكل التفاعل الاجتماعي البسيط عند الرضيع اللبنات الأولى لتكوين شخصية الطفل عن طريق استثارته للآخرين بالبكاء والصراخ كوسيلة للإستجابة إليه وتلبية حاجاته من الطعام والعناية وعن طريق هذا التعلم الشرطى يتكيف سلوكه نحو الاستجابات الواردة إليه بما يشبع حاجاته ويؤمن أمنه وسلامته ويحقق له الرضا.
ومن أولى شرائط الصحة النفسية السليمة للطفل الصغير أن يعتاد صحبة الآخرين ضمن دائرة الأسرة الواحدة أولاً، ثم توسع دائرة اتصالاته الاجتماعية بالأشخاص الغرباء عنه، على أن يكونوا من ضمن المحيط الذي يعيش فيه الطفل كالأقرباء وأطفال الجيران وغيرهم ليتعود على تقبل الآخرين والتعاون معهم، وليتواصل معهم لغوياً وحركياً وانفعالياً، وبذلك يقتدي بأفعالهم ويستفيد من معاشرتهم بالانطلاق في التعبير عن رغباته ومشاعره نحوهم .
ولعل المقارنة بين تلك الأجواء العاطفية الودية والحميمة التي يألفها الطفل، وبين تلك الأجواء الأخرى التي يقابل فيها بالخصومة والعدوان المفعمة بالإحباط والحرمان، لتتعزز فى شعوره مشاعر الإخفاق والمعاناة الأمر الذى يترك آثاراً عميقة الجذور في الشعور بالنقص أو بالقصور النفسي أو الجسدي، أو الشعور بالمنعة بين مَن يستهينون به أو يعيقون تطلعاته فيتحول إلى شخص متهيب أو خجول، ويضطرب عاطفياً فلا تستقيم حياته بشكل هين ومريح. وتنشأ بداخله عوامل الاضطراب .
الأسرة هي المؤسسة الاجتماعية الصغيرة التي تمنح الحب والرعاية, والعناية للأطفال . فإذا نشأ الطفل في مناخ عائلي عادي يسوده العطف والحنان والطمأنينة استطاع أن ينمو نمواً صحيحاً يتميز بالقدرة علي التكيف مع نفسه, ومع المجتمع الذي يعيش فيه.
ولاشك أن التفاعل الاجتماعي السوي والعلاقات السوية بين أفراد الأسرة وخاصة الوالدين الذي يقوم على أساس المودة ووالتسامح والتقبل لها أثرها الطيب في تنشئة الطفل، عكس الأسرة التي يسود فيها جو من عدم المودة وعدم الاحترام وعدم توافر الثقة المتبادلة بين طرفيها يكون لها العديد من الآثار النفسية السيئة على الطفل.
فالأسرة هي الوحدة الاجتماعية الأولى التي ينشأ فيها الطفل وهي المسئول الأول عن صحته الجسمية والنفسية.
والإشباع النفسي والارتباط الانفعالي من أهم ما تقدمه الأسرة لأبنائها. فالأم بصفة خاصة والأسرة بصفة عامة لهما أكبر الأثر على على النمو النفسي السوي أوغير السوي للطفلوعلى أساس موقفها من الطفل يتحدد ما إذا كان سينمو نمواً نفسياً سليماً أو سيكون نموه نموًا مضطربا غير سوى وغير سليم.
اذ أن الطفل يحتاج إلى عاطفة المحيطين به فقد تترجم هذه العاطفة إلى إشباع للحاجات أو رعاية أو حب. فالطفل يحتاج إلى رعاية المحيطين به رعاية طويلة ودقيقة قبل أن يستطيع أن يحقق استقلاله.
والمضمون الانفعالي يلعب دوراً كبيراً في تلك العلاقات. ذلك إن هذه العلاقات الاجتماعية ذاتها تقوم على أساس من الروابط الانفعالية التي تتميز بمشاعر قوية وتأثير متبادل بين الأطراف المعنية. فالطفل في هذه المرحلة يحتاج إلى دفء العاطفة، والثبات والاستقرار في المعاملة كما يحتاج إلى إثارة النشاط الجسمي والحركي والمعرفي. فإذا استطاع الوالدين أن يتعرفا على حاجاته، وان يستجيبوا لها بطريقة سديدة في الوقت المناسب ساعد ذلك على تنمية علاقة إيجابية بينه وبين المحيطين به، علاقة قوامها الثقة في نفسه وفي من حوله، كما يظهر ذلك في زيادة قدرته على تأجيل اشباعاته، وفي الدفء والمرح الذين يشيعان في تعامله مع أعضاء أسرته. و قد جعل القرآن الكريم العاطفة الأسرية منبعاً تتفرع منه العلاقات الأسرية، كما في قوله تعالى(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) الروم - 21، ففي هذه الآية المباركة إشارة إلى أن العاطفة الأسرية ليست هي محض صدفة أو التقاء عابر عبر طبيعة الخلق أو مسيرة الارتقاء بل إنها نابعة من وحدة التكوين الخلقي، وهذه الوحدة في التكوين تساهم في تقوية الأواصر بين الجنس البشري، فالأصل التكويني الواحد الذي أشار إليه القرآن هو المنبع الأول الذي تفيض منه مظاهر تلك العاطفة الأسرية من خلال المودة والرحمة والمحبة الاطمئنان والاستقرار.
والعلاقات الأسرية التي تشتق من العاطفة تلعب دوراً كبير في توثيق والتحام عناصر الأسرة الواحدة وتعمل على تفعيل وتقوية التماسك والتعاون بين أعضائها، وتتبنى الركائز المشتركة التي تتواصل من خلالها عملية التوافق والانسجام الأسري. فالعلاقة بين الزوج والزوجة هي علاقة حب وتعاون واحترام وأمن واستقرار بل إن الوحدة في التكوين الخلقي هي سبب إلهي لإيجاد هذه العلاقة بهذه الكيفية بين الزوج والزوجة. وتكون العاقبة على الأطفال إما نعيمًا وهناء
د. صلاح الدين السرسي