موقفك من رضيعك بين الإشباعات والإحباطات
ذكرنا فى موضع سابق أن الطفل يتعلم عندما تكون له حاجة تضطره الى أن يتعلم استجابة ما تقلل من حدة هذه الحاجة . وكما نعلم فإن للمولود العديد من الحاجات الأولية ( كالحاجة إلى الأكسجين أو التخلص من الفضلات ) التى يستطيع التقليل من حدتها بأساليب تلقائية أو فطرية . لكن هناك عدد آخر من الحاجات الأولية التى يتطلب اشباعها قيام شخص آخر بفعل ما . هذه الحاجات المتمثلة فى الجوع والعطش ، والتخلص من الألم أو البرودة . بالإضافة إلى أن التنبيهات اللمسية والحشوية المرتبطة بالتدليل وحمل الطفل وتكون فى حد ذاتها مثيبة للطفل بشكل فطرى ، هذه التنبيهات تتطلب بالضرورة تفاعلاً وثيقًا مع شخص آخر .
حاجتى الجوع والعطش :
من الصعوبة بمكان التمييز بين حاجتى الجوع والعطش لدى الرضيع بسبب أن اشباع كل منهما يتم باستمرار من خلال الرضاعة . وللتبسيط العملى يشار الى كل منهما بالجوع . وفى الجوع نجد أن التنبيهات المرتبطة بالحاجة إلى الطعام تظل تزداد بانتظام ولعدة مرات فى اليوم ، والرضيع يكون معتمدًا كل الاعتماد على وجود شخص آخر يشبع له هذه الحاجة . وإذا مرت فترة انتظار طويلة بين الأحاسيس الأولى بالجوع ( كتنبيهات داخلية ) وبين التخلص منها لنتج عن هذا ازدياد التوتر الى حد كبير . وفترات الانتظار الطويلة تلك لا يمكن تجنبها بالكلية ، وكثيراً ماتحدث . لكل هذا يمثل الجوع الحاجة الأولية التى التى تصل إلى أعلى مستوى من حيث طول فترة التنبيه ، وهو نفسه الأمر الذى يجعل من الجوع الحاجة الأولية التى يرتكز عليها تعلم كثير من الأمور التى يتعلمها الطفل فى بداية حياته .
ولأهمية هذه الحاجة أولت نظرية التحليل النفسى قدرًا كبيرًا من الاهتمام بالجوع والخبرات التى تكتنف اشباعه . ويطلق أصحاب التحليل النفسى على السنة الأولى من حياة الطفل (المرحلة الفمية ) . وتشير هذه التسمية إلى إلى ماهو معروف من النشاط الفمى ( الامتصاص والابتلاع والعض ) هو أهم مصادر الإشباع والمتعة بالنسبة للطفل فى هذه الفترة . .. كما يرى أصحاب التحليل النفسى أن عدم تحقيق قدر كاف من خبرات التغذية المشبعة للطفل يكون له أثر بالغ على نموه اللاحق ، وقد يؤدى فى بعض الأحيان الى المرض العقلى من قبيل الاضطراب الوجدانى ثنائى القطي - الهوس والاكتئاب - والفصام .
ويؤكدعلماء النفس الحقائق التالية :
• أن للرضاعة الطبيعية فائدة نفسية واضحة لكل من الأم .. والمولود. وقد تكون فائدتها بالنسبة للمولود: أكبر!
• تزيد الرضاعة الطبيعية من قوة الارتباط بين الأم والمولود.
• تشعر الأم بمدى اعتماد وارتباط المولود بها. وهذا يزيد من تعلقها به .. !
ولا يجب أن تظن الأم أن امتصاص اللبن من ثديها يضعف صحتها
فهذا غير صحيح .. فما دامت تأكل الطعام الكافي وتراعي صحتها بشكل طبيعي فلا خوف إطلاقاً عليها من الرضاعة مهما كانت كمية اللبن التي يمتصها المولود من الثدي.
أهمية الاتصال اللمسى بالأم :
تبدأ أهميّة العلاقة بين الأم وطفلها بالظهور منذ اللحظات الأولى من حياة الطفل وتتمثل هذه الأهمّية في عوامل تبدو غير مترابطة في الظاهر ، لكن ينبغي في الواقع
مراعاتها وفهمها فهماً صحيحاً . وربّما سأل سائل عن سبب توقّف الطفل عن البكاء فوراً عندما تحضنه أمّه بين ذارعيها ، أو عن سبب قدرة الطفل على تمييز الوجه البشري من بين الوجوه جميعاً ابتداء من لحظة الولادة . إن هذه العوامل تفسّر الأهميّة المتزايدة التي يؤكدها بعض المختصين بعلم النفس وبعض الأطباء النفسيين من أن الاتصال البدنى بين الأم والرضيع يؤدى الى المتعة والإثابة بصفة فطرية . ولعلّ أسرع وأبسط طريقة لتعزيز العلاقة بين الأم ووليدها تقديم الوليد إليها في غرفة الولادة كما هو الحال عندما تتم الولادة في المنزل ، والسماح لها بحضنه حتى قبل تغسيله . والوليد الجديد يتعرف بسرعة على خصائص أمه ، حيث يشم رائحة جسدها ويحسّ بحرارته ، كما يتعرف الخواصّ الأخرى لسلوكها . وتلك هي بداية العلاقة بين الطفل وأمه والتى تظهر منذ الشهور الأولى من حياته، ولقد ثبت فعلاً أن الأطفال الحديثي الولادة - الذين تحضنهم أمهاتهم إلى صدروهن - يقلّ بكاؤهم ويتكيفون بصورة أبكر من دورة الليل والنهار ، ويتميزون بمزاج هادئ ، ويصبحون أقلّ عرضة للإصابة بالمرض من الأطفال الذين يبقون بعيدين عن أمهاتهم .
ومن العوامل المهمة الأخرى صوت الأم ، فهو يمنح الطفل الدفء والأمن ، ويشرع الطفل بتمييزه ، فور سماعه ، عن الأصوات الأخرى جميعاً . ومن الحقائق المعلومة كذلك أن الفترة الرئيسية في الاتصال الأولي بين الأم وطفلها هي فترة الاثنتي عشرة ساعة الأولى . والحقّ أن خمس عشر دقيقة حتى عشرين دقيقة من الإتصال بين الأم وطفلها تعدّ كافية لتوطيد علاقة صحيّة سليمة بينهما . ويبدو أن هناك خبرات هامة تزود الأم طفلها بها ، خبرات ضرورية من أجل النمو الطبيعى السوى فتناول المولود وتدليله وهزه يمده بقدر كبير من المتعة الحشوية اللمسية ، ويسهم فى ايجاد تعلق إيجابى بين الأم والطفل ، وهذا ماعبرت عنه مارجريب ريبل بقولها " أن هناك حاجة فطرية للإلتصاق بالأم وأن الأم التى تتيح لطفلها فرص الإلتصاق تعينه على النمو السليم " .
وقد خلصت لهذه النتيجة من خلال ملاحظتها التى دامت فترة طويلة من الزمن لعدد من الرضع يبلغ الستمائة . وكان انتباهها مركزًا على طبيعة التفاعلات بين الأم والرضيع وما يكون لها من أثر على حالة الطفل الجسمية والانفعالية عامة ونشأة حالات القلق والتوتر عنده بصفة خاصة . وقد وجدت 180 رضيعًا من بين أفراد المجموعة كلها يعانون من توترات عضلية عامة شديدة . وقد اختفت هذه التوترات ، جميعها حين أتيح للرضيع أن يرضع ثدى أمه أو أن يظل ملتصقًا بجسدها . أما ان استمر حرمان الطفل من هذا النوع من الخبرات ترتب على ذلك استمرار حالة التوتر العضلى عنده وعدم انتظام تنفسه وإصابته بالاضطرابات المعدية والمعوية .
وقد لاحظت ريبل أن الأمهات المضطربات انفعاليًا أو اللاتى يلفظن أطفالهن يعجزن عن أن يقدمن أمومة سليمة لأطفالهن . ومن شأن كهذا أن يؤدى إلى نمطين عنيفين من الاستجابات عند الرضيع . أولهما الخلفة Negativism حيث يمتنع الطفل عن الامتصاص ويفقد الشهية ويرتفع ضغط دمه وتتصلب عضلات جسمه ويحبس أنفاسه مع تنفسه السطحى غير العميق والإمساك . والثانى هو النكوض أو الإرتداد regression الذى يتميز سلوك الطفل فيه بالهدوء الاكتئابى وفقدان الميل الى الطعام ، والنوم الذى هو أقرب الى الغيبوبة ، وفقدان العضلات لقوامها الطبيعى ، وتناقص حظ الأفعال المنعكسة من القابلية للإستثارة ، وعدم انتظام التنفس ، والاضطرابات المعدية المعوية من قبيل القىء والإسهال .
ويبدو واضحًا من هذه الاستجابات أن الأمومة غير السليمة هى نوع من الحرمان الذى قد يؤدى إلى أضرار بيولوجية ونفسية بالرضيع .
والذى ينبغى أن نعرفه هو أن الرضاعة من ثدي الأم ـ من الناحية النفسية ـأفضل بكثير من الرضاعة بالزجاجة ، ذلك لأنها توجد رابطة لاتنفصم بين الطفل وأمّه ، فالطفل يشعر بلذّة لا توصف من التغذية بالثدي . كما أن الرضاعة المبكرة تسهل على الأمّ عملية الإرضاع فيما بعد ،ووضع جدول زمني للإرضاع . ولعلّ بقاء الأم على مقربة من وليدها ، واتصالها به أطوال زمن ممكن هو الوضع المثالي الذي تستطيع أن تحققه الأم لطفلها . فهذه الرابطة القائمة على القرب والحنان هي من أقوى الغرائز الإجتماعية ، وهي تبدأ منذ الولادة والأمّ تحقق بذلك غرضاً واضحاً يمليه عليها وضع طفلها العاجز الضعيف ،فالطفل يحتاج إلى رعاية وحماية وإلى تغذية كافية ومؤانسة ، وهو يبدى أنواعاً من السلوك تعبّر عن رغبته في التماس الاتصال والاقتراب من الكبار
كالبكاء والتعلّق بالكبار وتتبعهم بعينيه أو بكامل جسمه ، أو مجرّد الإمساك بذراعهم.
وبهذه الصلة الوثيقة يتحقق هدف الطفل ، ويستطيع أن يسدّ حاجاته
و قيام شخص كبير بتوفير الطعام للطفل ، ورعاية حاجاته الخاصّة الأخرى ، وقضاء قدر كبير من الوقت معه ، يشيع جوّاً عاطفيًا ملائماً ، ذلك أنّ مثل هذه الرابطة العاطفية يمكن أن تنمو وتعمم نحو أشخاص لا يقومون بالباس الطفل أو بتغذيته ، بل يتجاوبون وإياه تجاوباً قوياً ،أي أنهم يرغبون في تكييف سلوكهم مع حاجات الطفل الخاصّة عن طريق اهتمامهم به وتعلّمهم اشاراته الخاصّة وتمييزها ، الأمر الذي يفسّر سبب تعلّق الطفل بأمّه دون المربيّة ، كما يفسّر كذلك سبب العاطفة التي يبديها الطفل نحو أمّه التي تقوم بمداعبته وتوليه اهتماماً بالغاً ، ولا يقتصر دورها على تقديم الرعاية اللازمة له من أجل إبقائه على قيد الحياة . فمع نموّ الطفل تزداد قدراته الحسيّة الحركيّة ، ويزداد تبعاً لذلك احتمال مواجهته لأشياء ومواقف جديدة توسع دائرة علاقاته الاجتماعيّة ، فيصبح وجود الأم غير ضروري لتوفير الحوافز للطفل بل لأداء وظائف مختلفة .
ومهما يكن من أمر فإن دور الأمّ يبقى مهمّا في توفير التعليم لطفلها وتمكينه
من تفتح استعداداته واكتسابه الخبرات والمهارات التى تكنه من التفاعل الاجتماعى وممارسة الأنشطة الثقافية
د. صلاح الدين السرسي