العلاقة النفسية الجسمية بين الأم والطفل
العلاقة بين الأم وطفلها تبدأ من فترة ماقبل الحمل مرورًا بفترة الحمل ثم الولادة ، هذه العلاقة تتضمن تفاعلاً نفسيًا ، وجسميًا ، تلعب فيه الهرمونات دورا هامًا وكذلك اتجاهات الأم نحو طفلها ، وتنعكس محصلة هذا كله على موقف التغذية . ولاشك أن بعض أساليب التغذية تكون أفضل من بعضها الآخر وأكثر ضمانًا لحصول الطفل على أوجه الاستمتاع المرتبطة بخبرات التغذية . إذ قد تفضل الرضاعة الطبيعية الرضاعة الصناعية لأنها تضاعف الجوانب الممتعة فى موقف التغذية كما أنها تساعد على تقوية الروابط بين الأم والطفل . ففى الرضاعة الطبيعية تتمكن الأم من حمل الطفل بحيث يكون أقرب مايكون إليها ، وتمنحه بذلك مشاعر المساندة والاسترخاء والتنبيه اللمسى والراحة . وقد أظهر العلماء، لأول مرة، كيفية نشوء ما أسموه بهرمون "الثقة" في أدمغة الأمهات المرضعات عند إرضاع صغارهن. فالرضيع عندما يبدأ في مص الحليب من ثديي أمه، تنطلق سلسلة متصلة من العمليات في دماغ الأم تؤدي إلى نشوء هرمون "الثقة".
وقال العلماء إن هذا الكشف يشكل دليلا إضافيا على أن الرضاعة تعزز الرابطة بين الأم المرضعة ورضيعها من خلال عمليات كيميائية حيوية.
وقال فريق العمل في جامعة وورويك الذي أنجز البحث إن الهرمون المسمى "أوكسيتوسين" كان من المعروف عنه عند إطلاقه في الدم أنه يسبب انسكاب الحليب من الغدة الثديية.
لكن ما لم يكن معروفا أنه عند إطلاق الهرمون "أوكسيتوسين" في الدماغ، فإنه يساعد على تعزيز الرابطة بين الأم والرضيع من خلال الثقة التي تنشأ بين الطرفين.
ويؤدي هرمون "أوكسيتوسين" أيضا إلى حدوث انقباضات خلال أوجاع المخاض ويسبب في "انسكاب" الحليب من الغدد الثديية.
وينشأ الهرمون في جزء الدماغ المسؤول عن التحكم في حرارة الجسم والعطش والجوع والغضب والتعب.
وقد خلص فريق البحث إلى أن الهرمون المذكور يفرز مشاعر ثقة الرضيع في أمه واتكاله عليها، إضافة إلى تقليص خوفه من العالم الجديد الذي وفد إليه.
خلايا عصبية
كماخصلت الدراسة المنشورة في مجلة PLoS Computational Biology إلى أن الرضيع عندما يرضع من ثديي أمه، فإن خلايا عصبية خاصة في دماغ الأم المرضعة تبدأ في إطلاق الهرمون المذكور.
لكن فريق البحث فوجئ بأن هرمون "أوكسيتوسين" يُطلق أيضا من جزء الخلية المسماة الزوائد المتشجرة والتي عادة ما تكون هي نفسها جزء الخلية العصبية المتلقى للمعلومات وليس المرسل لها.
واعتمد العلماء على عمليات حسابية دقيقة من أجل التوصل إلى أن إطلاق الزوائد المتشجرة لهرمون "أوكسيتوسين" يتيح زيادة التواصل بين الخلايا العصبية.
وعلامات الرضا فى التغذية (الامتصاص الإيقاعى المنتظم ، وحركات الابتلاع المنتظمة السهلة والقبض الثابت ، وقلة تغيير الطفل لوضع بدنه) تصاحب الرضاعة من حلمة يسيل اللبن منها فى يسر وانتظام . أما علامات عدم الرضا والإحباط ( من امتصاص قوى متفرق ورفض للحلمة ، والتململ العام ، وازدياد التوتر الجسمى والعضلى ) فتصاحب الرضاعة المتقطعة أو التغذية من حلمة لايسيل منها اللبن إلا بصعوبة . وحمل الرضيع فى وضع مريح أثناء فترة الرضاعة غير المتقطعة أو تغذيته من حلمة تتميز بالسهولة النسبية ، يثير فى نفس الطفل مشاعر الرضا والارتياح .
ويرى بعض العلماء أن الرضاعة الطبيعية لفترة تقل عن ثلاثة أشهر عقب ولادة الطفل قد تؤدي إلى التأثير سلبا على ذكائه
فقد أجرى باحثون من النرويج والدانمارك دراسة على نحو ثلاثمائة وخمسين طفلا تتراوح أعمارهم بين ثلاثة عشر شهرا و خمس سنوات لمعرفة الفترة التي حصلوا خلالها على رضاعة طبيعية وعلاقتها بمستويات الذكاء والقدرة على التحصيل . تبين منها أن الأطفال الذين حصلوا على رضاعة طبيعية لمدة تقل عن ثلاثة اشهر كانوا عرضة لانخفاض مستوى الذكاء إلى أدنى من المتوسط عن الأطفال الذين حصلوا على رضاعة طبيعية لمدة ستة اشهر أو اكثر .
وحتى عند أخذ عوامل أخرى مثل عمر الأم، و ومستوى تعليمها وما إذا كانت تدخن أم لا في الاعتبار، استمرت تلك الاختلافات في الظهور
ويقول الدكتور تورشتاين فيك من إدارة الطب الأسري بالجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوجيا إن نتائج الدراسة تشير إلى أن طول فترة الرضاعة الطبيعية مفيد لزيادة قدرة الطفل على التعلم . ويضيف أن السبب قد يعود إلى قوة الرابطة التي تمنحها الرضاعة الطبيعية بين ألام والطفل أو ما يحتويه لبن ألام من مواد مغذية ضرورية للنمو . ويشير إلى احتمالات أن تكون تلك الأحماض الدهنية هي السبب وراء زيادة فعالية الغذاء اللازم لنمو الطفل
وقد تكون هذه هي حلقة الوصل بين أثار التغذية من خلال الرضاعة الطبيعية و النمو العقلي للطفل وتقول بليندا فيبس رئيسة جمعية المواليد الوطنية إن الدراسة، التي نشرت في جريدة أرشيف إمراض الطفولة المتخصصة، تؤكد ما تدعو إليه الجمعية منذ زمن طويل ، وهو أن الرضاعة الطبيعية هي الافضل، لأنها الأسلوب الذي حبته الطبيعة للام لإطعام طفلها
وتضيف أن الدراسة ستكون لها آثار رادعة على الأمهات الراغبات في العودة للعمل مبكرا بعد الولادة ، وتؤكد أن النصيحة المقدمة إليهن ستكون التريث واستمرار الرضاعة الطبيعية لأطفالهن حتى السنة الثانية من العمر.
ولقد ذُكرت الرضاعة في القرآن الكريم في أكثر من موضع، وفي الآية الكريمة يقول الله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: آية 233]، وفي ذلك إشارات واضحة إلى أهمية هذه العملية سواء بالنسبة للمولود أو الأم، فالرضاعة بالنسبة للرضيع غذاء للروح والبدن وهى وصال لعاطفة ربانية بين الأم ورضيعها، وهي البيئة الخصبة لبذر أرق المشاعر وأغلاها لدى المرأة تجاه صغيرها.
والرضاعة الطبيعية هي من أفضل ما يجب أن يتغذى عليه الرضيع، كما أثبتت الدراسات السابقة هذا . وأنسب مدة للرضاعة الطبيعية كي تؤدي النفع التام لصحة الطفل ونموه البدني والنفسي هي كما حددها الله -عز وجل- حولين كاملين إن لم يكن هناك مانع قوي مثل مرض الأم مثلاً.
ويُنصح بالتدرج في عملية فطام الطفل، وكذلك ضرورة اختيار الوقت المناسب لذلك؛ من حيث اعتدال الجو بين البرد والحر، وكذلك بالنسبة لمستوى نمو الطفل، بحيث يكون قد تكامل عنده إنبات الأسنان اللبنية التي تساعده على تقطيع الطعام.
وقد ثبت أن الطفل الذي يرضع من أمه ينمو نمواً نفسياً سليماً، بينما تكثر الأمراض والعلل النفسية لدى أولئك الذين يرضعون من القارورة؛ لأن الرضاعة الطبيعية هي عملية نمو جسمي ونفسي، ولها أثر بعيد في التكوين الجسدي والانفعالي والاجتماعي للرضيع.
فاللحظات التي تجمع الأم برضيعها، ويقترب من صدرها لدرجة الالتصاق ليستمع إلى دقات قلبها، ويشعره ذلك بالاطمئنان لأنه اعتاد على سماعها، وهو في بطن أمه، فيتولد لديه شعور بالأمان والسكينة بمجرد ضم أمه له، وهذه الأوقات تُعدّ موسم إنبات بذور الحب بين الأم ورضيعها، وعلى الأم استثمار هذه الأوقات في زيادة التأثير الإيجابي لعملية الرضاعة، بحيث لا تكتفي على إلقامه ثديها ليتغذى فقط، بل عليها أن تطيب نفسها وتهدئ مشاعرها إن كانت منفعلة من شيء ما، فالاستقرار النفسي للأم هام جداً؛ لأنه يترك أثره في حليب الطفل.
وثبت أن الطفل الذي يتمتع بالتّّماسّ الحسي مع أمه، والذي يتوافر بشكل طبيعي أثناء الرضاعة، ثبت أنه أكثر استقراراً في الحالة النفسية، وكذلك يتمتع بارتفاع في نسبة الذكاء والعديد من القدرات أكثر من الأطفال الذين لم يتمتعوا بهذا القرب والحنان بين الأم ورضيعها.
ولقد حثت الشريعة الإسلامية الأم على إرضاع وليدها لمدة عامين كاملين حتى ينمو الطفل نموا سليما من الناحيتين الصحية والنفسية، والأم أحق برضاع ولدها فإن لم يتيسر لها ذلك فلتعهد به إلى مرضعة كريمة صالحة، وقد ثبت من الدراسات التى استعرضناها أن اللبن يؤثر في جسم الطفل وأخلاقه وآدابه .وموقفها الانفعالى أثناء موقف الرضاعة يؤثر على الطفل بنفس درجة تأثره بوضعية الرضاعة ووقتها .
والتغذية التلقائية للطفل (حينما يطلب التغذية ) أسلوب قد يكون أفضل من غيره لأنه يمنع نشوء التوترات المؤلمة المتراكمة المرتبطة بالجوع . فى حين أن التغذية الموقتة بجدول منتظم فى فترات الرضاعة المبكرة ، قد يترتب عليها تقديم الغذاء للرضيع من قبل أن يشتهى الطعام فى بعض الأحيان أو يترتب عليه ألا يحصل على الطعام إلا بعد أن تشتد عنده إحساسات الجوع .
ولاشك أن بعض أساليب التغذية تكتسب أهمية كبرى لأنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالعلاقة بين الأم والطفل . فإذا كانت الأساليب المستخدمة من النوع الذى يجعل موقف التغذية سارًا ومثيبًا ، ازداد تعلق الطفل بأمه وازدادت مشاعر الود والدفء عنده نحوها. وإذا تم تعميم هذه المشاعر على الآخرين ، بدأ الطفل حياة سليمة تتسم بالتوافق الحسن اجتماعيًا وانفعاليًا فى المستقبل .
وثبت أن شخصية الأم ذات تأثير قوى فى تحديد نوع العلاقة التى تقوم بينها وبين طفلها وفى أساليب التدريب التى تتبعها ، فالأم الصارمة شديدة الحرص على النظام والترتيب وذات الشخصية الوسواسية القهرية سوف تجد اتباع الجداول الصارمة بما فى ذلك جدول التغذية أمر يتمشى مع أسلوب حياتها العام . أما الأم المرنة المتسامحة الحنون فإنها على العكس من ذلك سوف تقيم علاقة وثيقة مع رضيعها وسوف تحمله كثيرًا وهى تظهر له الحب وتدلله وتربت عليه .
وقد تأكد من الكثير من الدراسات أن العوامل التى تؤثر فى موقف الأم من الرضاعة تتمثل فى الآتى :
نشأة الأم نفسها فى أسرة تصطنع نهج التساهل والتسامح فى أساليب تربية الطفل ، الاتجاهات الإيجابية نحو الرضاعة الطبيعية ؛ وتطلع الأم الى أن ينشأ بينها وبين مولودها اتصال وثيق مبكر.
د. صلاح الدين السرسي