عفواً.. لن يكون ابنك صلاح الدين
تكاثرت الصور المحزنة والمشاهد المفجعة عبر التلفاز..فأسرع الأب بإطفاء الشاشة ، وانسل حيث يلعب أولاده..وبدأ يهدِّئ من روع نفسه المضطربة ، وهو يلاعب الأبناء..وأخذ يحدث نفسه ويجول بخواطره ، ويقول: من يدري لعل أحدكم يكبر ويكون صلاح الدين الأيوبي الذي يجمع شمل الأمة ويلملم الشتات ويحرر الأقصى الأسير...
وتهللت أساريره وقد وجد لنفسه المأزومة مخرجاً بأحلام يقظته..نعم قد تتغير أحوالهم وتتباين مصائرهم ويخرج منهم الشجاع المنتظر..ثم مضى إلى مشاغله اليومية وقد استراحت نفسه لهذا الخاطر..
عفواً لن يكون ابنك صلاح الدين..
فصلاح الدين ليس ظاهرة نشأت من العدم..
وسيف الدين قطز لم يكن نبتاً في فراغ.
ومحمد الفاتح لم يولد من أحشاء عنصر المفاجأة ..
لقد تربى هؤلاء وأولئك وأعدت لهم العدة ، حتى ظهر جيل صلاح الدين..حتى سطع نجم جيش قطز .. حتى هب طوفان محمد الفاتح..
ولتقف معي في جولة سريعة عبر سير هؤلاء لتعلم الإجابة:
************
صلاح الدين الأيوبي 532هـ/1137م:
أبوه هو "نجم الدين أيوب" القائد البرز في جيش القائد "عماد الدين زنكي" موحد الإمارات الشامية ، والذي قضى على فتنة الاقتتال والتناحر بين أمراء الشام بضم هذه إلإمارات بالتوالي تحت لوائه ، وقد أكمل مسيرته من بعده ابنه "نور الدين محمود" ، لتكون هذه الوحدة إرهاصاً لاستعادة الدولة الإسلامية لكامل قوتها في مواجهة الإفرنج.
وقد تولى أبوه حكم قلعة بعلبك ثمانية أعوام حيث تولى حمايتها من هجمات الإفرنج وتآمر بعض الأمراء عليها ، وقد أحبه أهلها لاهتمامه بالرعية ولإنسانيته وإخلاصه ، وكانت تلك الأجواء هي التي شهدت طفولة صلاح الدين حيث تربى في أجواء عسكرية تاريخية في كنف أب حاكم عادل مخلص ومجاهد ، فنشأ رجل عمل ومغامرة ومخاطرة، ذا حس تاريخي، ورؤية لعمل التاريخ ، حتى أن هوايته وأوقات مرحه كانت تتصل بهذه السمات ، فقد ورث عن أبيه حب لعبة الصولجان ، والتي لم تكن مجرد رياضة ترفيهية ، بل كانت فرصة لممارسة التدريب والفروسية وعنها يقول : " والله ما يحملني على اللعب بالكرة اللهو والبطر، إنما نحن في ثغر، والعدو قريب منا، وبينما نحن جلوس إذ يقع صوت فنركب في الطلب ، ولا يمكننا أيضا ملازمة الجهاد ليلاً ونهاراً شتاءً وصيفاً. وإذ لابد من الراحة للجند ، ومتى تركنا الخيل على مرابطها صارت جماماً لا قدرة لها على إدمان السير في الطلب ، ولا معرفة لها بسرعة الانعطاف في الكر والفر في المعركة. فنحن نركبها ونروضها بهذه اللعبة فيذهب جمامها وتتعود سرعة الانعطاف والطاعة لراكبها في الحرب. فهذا والله الذي بعثني على اللعب بالكرة.»
هكذا كانت الأسرة وهكذا كان المنشأ وهكذا كان لعب القائد الصغير صلاح الدين..
***********
سيف الدين قطز..
هو ابن السلطان "محمود ابن ممدود" ابن أخت "خوارزم شاه" من أولاد الملوك ، لكنه فر صغيراً على أثر هجمة التتار الشرسة لبلاده حيث سقط في أيدي النخاسين ، وبيع في سوق النخاسة منذ طفولته ، وانتقل من يدٍ إلى يد حتى انتهى إلى "عز الدين أيبك" من أمراء مماليك البيت الأيوبي بمصر. وتدرج في المناصب حتى صار قائدًا لجند "أيبك"، ثم قائدًا للجيوش عندما تولى "عز الدين أيبك" السلطنة مع شجرة الدر ، ثم تولى عرش مصر على أثر عزل " المنصور" ابن عز الدين أيبك ..
ويروي أنه أخبر في صغره أحد أقرانه أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وقد بشَّره بأنه سيملك مصر ويكسر التتار، ومثل هذه الرواية تؤكد أن الرجل كان يعتبر نفسه صاحب مهمة، وأن له دورًا في صناعة التاريخ، وتغيير الواقع الأسيف الذي يحيط به من كل جانب.
وقد تحقق له ذلك وصدقت البشارة ، فهذا القائد هو صاحب أول نصر يحققه المسلمون على جيوش التتار التي اجتاحت العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري ، ولم يكن هذا النصر سهلاً ولا ميسوراً ، وحتى نتبين ضخامة هذه المهمة نقرأ الرسالة التالية التي أرسلها التتار للأمير قطز وهو في أيام ولايته الأولى على عرش مصر
"من ملك الملوك شرقًا وغربًا، القائد الأعظم، باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء، نُعلم أمير مصر "قطز"، الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذه الأرض، بعد أن ابتاعوا إلى التجار بأبخس الأثمان أما بعد.. "فإنا نعبد الله في أرضه، خلقنا من سخطه، يسلطنا على من يشاء من خلقه، فسلموا إلينا الأمر؛ تسلموا، قبل أن ينكشف الغطاء؛ فتندموا، وقد سمعتم. أننا أخربنا البلاد، وقتلنا العباد، فكيف لكم الهرب،؟! ولنا خلفكم الطلب، فما لكم من سيوفنا خلاص، وأنتم معنا في الأقفاص، خيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، فقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فمن طلب حربنا ندم، ومن تأخر عنا سلم. .. فلا تهلكوا أنفكسم بأيديكم، فقد حذر من أنذر، وقد ثبت عندكم أننا كفرة، وثبت عندنا أنكم فجرة، والله يلقي الكفرة على الفجرة.."
وقد كانت لهذه الرسالة أثرها حيث دب الذعر بين الناس وبدأوا بالفرار والهجرة شرقاً وغرباً حتى كادوا أن يهلكوا قبل أن يهلكهم التتار ؛ فما كان منه إلا أن توجه إلى رسل هولاكو فوسّطهم (أي قتلهم بأن ضربهم بالسيف ففصل أجسادهم من وسطها) وعلَّقهم على أبواب القاهرة؛ رغم أن الرسل لا يُقتلون، ولكنه أراد أن يشعر الناس بقوة وهيبة دولته.
وعندما بدأت الحرب وتلاقى الجيشان وحاول المسلمون بقلة عددهم أن يكسروا جيش التتار ، ضغط عليهم التتار بشدة حتى كادوا أن ينكسروا وبدأ البعض في الفرار من أرض المعركة ؛ فما أن رأى قطز ذلك حتى نزل عن فرسه وضرب عنقه، وخلع عنه خوذته في وسط ميدان المعركة صائحًا "واإسلاماه" وثبت معه طائفة من الفرسان الأشداء، فما لبث أن عاد الفارون من الميدان إلى المعركة من جديد، ونزل أحد الفرسان عن فرسه ليركبه قطز، فرفض صائحًا: ما كنت أمنع نفعك عن المسلمين الآن " أي أنت أنفع الآن على فرسك للمسلمين منك مترجلاً ، فإذا بجند الإسلام ينقضون على جيش التتار، فتنكسر هجمة التتار وتتخلخل صفوفهم ؛ فينهزم جيش التتار لأول مرة في المعركة، ولأول مرة منذ خروجهم لغزو أمة الإسلام.
إلى هنا فإنها سيرة فارس شجاع مغوار تربى في بلاط الملوك ، وبين صفوف الجند ، ولكن اللقاء الفريد الذي شائته الحكمة الإلهية كان بينه وبين سلطان العلماء "العز بن عبد السلام" ، والذي كان سبباً رئيسياً في تحقيق النصر للمسلمين ، ذلك العالم العابد الزاهد الذي عُرف عنه قول الحق ولو بين يدي سلطان جائر ..والذي كانت له قصته الشهيرة في بيع أمراء المماليك رغم عظم مكانتهم في الدولة آنذاك ، ليرد أثمانهم لبيت مال المسلمين ؛ فقد وقف العز بن عبد السلام إلى جوار السلطان قطز يؤازره ، ويعد العدة لملاقاة العدو ويهيء الأمة للجهاد ، وعند إعلان الحرب شرع الأمراء وقادة الجند في جمع الأموال من الناس لإعداد الجيش ، فما كان من "العز بن عبد السلام" إلا أن وقف أمامهم فمنعهم عن أخذ شيء من الناس إلا بعد ما يخرج الأمراء والتجار والأغنياء من أموالهم وذهبهم حتى يتساوى الناس ، وينزل قطز على حكمه ويأمر بذلك.
وهكذا التقت شجاعة الجندي مع جلال سلطان الدين ليتحقق النصر..
************
محمد الفاتح 835 هـ- 1432م:
"لتَفْتَحُنّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش" [مسند أحمد: 4/335].
محمد الفاتح ، صاحب البشارة ، والذي تحقق على يديه النصر وفتح القسطنطينية بعد ثمانية قرونٍ ونصف من بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بفتحها ..
هذا الشاب الذي نشأ في كنف أبيه السلطان "مراد الثاني" سابع سلاطين الدولة العثمانية، الذي تعهّده بالرعاية والتعليم؛ ليكون جديرًا بالسلطنة والنهوض بمسئولياتها؛ فأتم حفظ القرآن، وقرأ الحديث، وتعلم الفقه، ودرس الرياضيات والفلك وأمور الحرب، وإلى جانب ذلك تعلم العربية والفارسية واللاتينية واليونانية، واشترك مع أبيه السلطان مراد في حروبه وغزواته.
ثم عهد إليه أبوه بإمارة "مغنيسيا"، وهو صغير السن، ليتدرب على إدارة شئون الدولة وتدبير أمورها، تحت إشراف مجموعة من كبار علماء عصره ، مثل: الشيخ "آق شمس الدين"، و"المُلا الكوراني"؛ وهو ما أثر في تكوين شخصية الأمير الصغير، وبناء اتجاهاته الفكرية والثقافية بناءً إسلاميًا صحيحًا.
وقد نجح الشيخ "آق شمس الدين" في أن يبث في روح الأمير حب الجهاد والتطلع إلى معالي الأمور، وأن يُلمّح له بأنه المقصود ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم، فشبَّ طامح النفس، عالي الهمة، موفور الثقافة، رهيف الحس والشعور، أديبًا شاعرًا، فضلاً عن إلمامه بشئون الحرب والسياسة.
لتهتز أوروبا من بعد على دوي مدافعه ، وتستيقظ على انهيار أسوار القسطنطينية الحصينة على يديه عام 857هـ- 1453م ، فيدخل المدينة مترجلاً عن فرسه ويسجد لله شكراً أن تحققت البشارة على يديه ، لتكون القسطينيطينة أو "إسلام بول" كما أسماها من بعد عاصمة دولته ، ومركز فتوحاته الواسعة في أنحاء أوروباً..
ومرة أخرى تلتقي روح الفروسية بجلال سلطان الدين ليكون النصر وتتحقق البشارة
............
والآن وبعد هذا العرض التاريخي هل ترى أن ابنك سيكون صلاح الدين..
إذا أردت الإجابة فاسأل نفسك وهل أنت مؤهلٌ لتكون أباً لصلاح الدين؟؟
هل ترى في نفسك مؤهلات من يخرج جيلاً كجيل صلاح الدين ، وسيف الدين قطز ، ومحمد الفاتح؟؟
نعم أنت لست سلطاناً ولا حاكماً ولا قائداً للجند ..ولكن هل أنت سلطان نفسك ، هل أنت حاكم ذاتك ، هل أنت قائد ولو في عمل إيجابي تنفع به غيرك وتنصر به أمتك!؟؟
كم مرة؟؟
كم مرة لمحك هذا الابن وأنت ترضخ لدخان سيجارتك في عبودية تتداعى معها إرادتك؟؟
كم مرة رآك هذا الابن وأنت لا تستطيع مجاهدة نعاس النوم فتعجز عن آداء الصلاة في وقتها ، فضلاً عن صلاة الجماعة..؟
كم مرة رآك تتهرب من آداء واجبات بر والديك أو صلات رحمك ، متعللاً بالعمل والانشغال وضيق الوقت..؟
كم مرة تأملك وأنت تستسلم للدعة والخمول دون إدراك لقيمة الوقت ، أمام شاشة التلفاز أو مواقع الشات أو حتى ما سواها من المواقع غير الملتزمة..؟
كم مرة افتقدك في جلسات الأسرة الدافئة ، وأنت تفر منها بجلسات الأصدقاء وسهرات الشلة!؟
فإذا لم تكن واحداً من هؤلاء
فهل رآك يوماً وأنت تسابق أخوتك على الصف الأول في المسجد..؟
وهل عرفك تلتزم بوردك اليومي من القرآن والأذكار التي لا تتراخى عنها مهما تعاظمت مشاغلك؟
وهل سمعك تجلس إليه وتشرح له بعض آيات الذكر الحكيم ، وتحكي له قصصاً من سير السلف الصالح؟
وهل ألفك في مواضع عمل الخير ومعاونة ذوي الحاجات وبذل الصدقات..؟
فإذا كنت واحداً من هؤلاء
فهل رآك مهتماً بقضايا أمتك؟
وهل سمعك تشرح له وقائع الأحداث وتحلل معه مجريات الأمور؟
وهل لمحك داعياً نشطاً تهب لنصرة أمتك في المحن والمصائب والأزمات ، تستنهض الهمم في حملات التبرع والدعاء الجماعي أو حتى مسيرات التظاهر السلمي..؟
وهل تلمَّس يدك وأنت تقوده في عمل إيجابي من هذه الأعمال ، وترسم له خطاه نحو المشاركة الفعلية في هذه الفعاليات..؟
وهل جلست معه يوماً تدعو معه وهي يؤمِّن خلفك ، وتسمع لدعائه وتؤمِّن معه لعل الله ينصر الأمة بدعائكم وخفقات قلوبكم الصادقة..؟
هل عرفك أباً فاعلاً لا تتخفى وراء حجج العجز ، ولا تعتذر بأعذار قلة الحيلة ، ولا تتراخى عن واجبات نصرة الأمة ، بدعوى القيود والحدود وبطش أصحاب السلطة..؟
إذا لم تكن أنت هذا الأب..
فاعلم أن ابنك لن يكون صلاح الدين
أ. شروق محمد