التفاعل الإيجابي للمسنين مع مرحلة الشيخوخة
إن الشيخوخة هي زهرة العمر، لأنها أكثر مراحل حياة الإنسان اتصافًا بالنضج، وامتلاء بالعمل وتحقيقًا للنجاحات الكبرى في الدنيا والآخرة، مما يجعلها تستحق إعجاب الشباب وتنال تقديرهم ..
لكي يتضح لنا بشكل دقيق، كيف يتدرج المسنّون في مراحل الشيخوخة، نجد أن تراجع قدرات الإنسان ينطلق من سن الأربعين، حيث تبدأ آثار الضعف تظهر على مستوى الجهاز العصبي، إذ يُسجل ظهور تقهقر تدريجي في قدرة المراكز الخاصة باستقبال المنبهات القادمة من الحواس (السمع، البصر، الشم، واللمس) إلا أن هذا الاضمحلال لا يكون واضحًا في فترة الأربعينات من العمر، لكنه يصبح ملحوظًا ابتداء من مرحلة الخمسينات والستينات، حيث تبدو عدم الاستجابة للمثيرات الخارجية واضحة المعالم، مما يؤدي إلى تناقص القدرة على التواصل مع المحيط الاجتماعي.
إن إجراء اختبارات القياس النفسي الخاصة بتشخيص القدرات النفسية لدى الأشخاص الذين تجاوزوا سن الأربعين، يُبَيِّن أن الكفاءات الذهنية هي الأخرى تبدأ في النكوص، خصوصًا منها القدرة على التذكر والقدرة على تعلم واكتساب مهارات جديدة، كما يلاحظ تراجع في سرعة ودقة إنجاز المهام، لكن هذا الضعف لا يمكن اعتباره تغيرًا مرضيًّا، ناتجًا عن تعرض الجهاز العصبي لإصابات أو تشوهات في بنيته التكوينية، بل هو ناتج عن دخوله إلى مرحلة الشيخوخة(1).
إن وتيرة تراجع القدرات الجسمانية يكون أسرع من وتيرة نكوص القدرات العقلية، التي تحتفظ بحيويتها حتى إن بلغ الإنسان مراحل متقدمة من العمر، لكن بشرط أن يواظب الشخص المسن بشكل دائم على كقراءة القرآن والكتب والصحف والمجلات، وممارسة الرياضات الفكرية الأخرى كالميل للحوار والتواصل مع الآخرين، ورغم ذلك تظل الفروق الفردية بين المسنين قائمة في سرعة أو بطء ظهور علامات الشيخوخة.
1. تراجع القدرات الجسمانية للمسنين
تبدأ حاسة السمع والبصر في التراجع، وتتبعهما حاسة الشم التي تصبح أقل حساسية للروائح، وبالمقابل فإن حاسة الذوق عوض أن تتقهقر هي الأخرى نجدها في تزايد وتصبح أكثر حساسية للمواد الغذائية الحلوة، إن تضافر مظاهر الضعف هاته على مستوى مختلف الحواس، يجعل المسنين أقل قدرة على التأقلم مع المحيط الاجتماعي، ويدفعهم للوحدة ويحرمهم من بعض المتع الدنيوية(2).
إن الحكمة من إضعاف الله جل علاه لحواس المسنين، هو حثهم على إضعاف ارتباطهم بالدنيا وتقوية تعلقهم بالآخرة، وإعداد العدة للقائه سبحانه وهم في أحسن حال. إن تراجع حاسة البصر مثلاً يخلق صعوبة لدى المسنين في التأقلم مع الظلمة، وهذا من شأنه أن يؤجج مشاعر الخوف وعدم الإحساس بالأمان لديهم خلال الليل، وهو خوف محمود يجعل كبار السن يشعرون بتغير طعم الدنيا، فإذا كانت تمنحهم في الماضي حلاوة النوم والراحة، فدوام حالها محال في مرحلة شيخوختهم.
إن الإنسان كلما تقدم في العمر كلما تناقصت عدد ساعات نومه، فكبار السن حسب أحدث الدراسات النفسية لا يحتاجون لفترات طويلة من النوم الليلي، ويتميز نومهم بصعوبة السهر في بداية الليل، وقد يتقطع في بعض الأحيان عدة مرات بشكل مفاجئ، كما أنهم يستيقظون باكرًا في الساعات الأخيرة من الليل، ويعوضون نقص النوم الليلي بقيلولة النهار(3).
لذلك نجد العقلاء من المسنين يتفطنون للحكمة من وراء تغيّر حال نومهم، فيدركون بأن راحة الدنيا مؤقتة، وأن أمانهم فيها أمان زائل فيفزعون من مضاجعهم في الثلث الأخير من الليل، ولسان حالهم يقول؛ يا أيها الفراش أنت ناعم لكن فراش الجنة أنعم، فتراهم يقفون بين يدي الله تعالى ليضيئوا ظلمة ليلهم بنور الركوع والسجود، وكلهم أمل بأن يُقدِّر الله جل علاه قيامهم بين يديه الكريمتين فيرضى عنهم، وما جزاء من رضي الله عنه في الدنيا إلا التمتع بالقرب منه والأنس بصحبته في الآخرة، فتزول بذلك وحشتهم لشعورهم بلذة صلاة التهجد، فيتحول خوفهم من ظلمة الليل إلى طمأنينة واضطرابهم إلى أمن وسكينة.
2. الاضطرابات النفسية المصاحبة لمرحلة الشيخوخة
لا يتوقف تراجع قدرات المسنين عند حدود الجانب العضوي، بل يمتد أيضًا للجانب النفسي ومن أهم الكفاءات التي تسجل نكوصًا ملحوظًا، نجد الذاكرة القريبة المدى الخاصة بتذكر الأحداث الآنية والجديدة، وهو اضطراب بسيط لا يؤثر على شخصية كبار السن ولا حتى على تأقلمهم مع محيطهم الاجتماعي، لكن انعكاساته قد تكون أحيانًا خطيرة، كنسيان إقفال قنينة الغاز بعد الانتهاء من استعمالها، أو نسيان مسخن كهربائي في وضع التشغيل أو نسيان إقفال الأبواب والنوافد عند الخروج من المنزل.
لذلك ينبغي لأبناء المسنين أو الأشخاص القريبين منهم أن يتفقدوا أحوالهم بين الفينة والأخرى، وأن يعتنوا بهم ويحرصوا على تتبعهم باستمرار، دون أن يشعروهم بأنهم مُراقَبون كي لا يحرجوهم. لكن إذا كانت الذاكرة القريبة المدى تضعف لدى كبار السن، فالذاكرة البعيدة المدى تقوى وتنشط لديهم ليبلغ مداها حتى ذكريات الطفولة، كما يستحضر المسنون من خلالها التجارب الحرجة التي مروا بها، ويتذكرون كيف استطاعوا إيجاد حلول لها، لذلك فكبار السن يتمتعون بنظرة أكثر وضوحًا عن الحياة، ويتحلون بالقدرة على معالجة المشاكل بعمق وابتكار حلول مناسبة لها مستفيدين في ذلك من خبراتهم السابقة، ولهذا يستحق الشيوخ أن يكونوا من أهل الرأي والمشورة، واللبيب من الشباب هو الذي يُقدِّر إمكانياتهم ويلجأ إليهم لتسديد قراراته وتصحيح مواقفه في الأمور التي تبدوا له غامضة أو مستعصية الحل.
لكن بعض المسنين يقاومون فكرة بلوغهم الشيخوخة، ولا يتقبلون ما ينحته الكبر من تضاريس الضعف على أجسادهم، فتضطرب شخصيتهم وتبدوا عليهم عدة سمات نفسية سلبية؛ من بينها:
أولاً؛ حالات من الغضب الشديد المصاحب بعدوانية حادة لأتفه الأسباب دون أدنى حساب لمشاعر الآخرين. فالعنيد في شبابه يصبح أكثر عنادًا في شيخوخته ،والسلطوي يصبح أكثر دكتاتورية عند مشيبه.
وثاني سمة هي؛ الميل إلى الانعزال والصمت، مع الرفض القاطع لتوضيح أسباب الخلود للوحدة.
ثالثًا؛ ميل بعض الشيوخ إلى إنكار ضعفهم وحاجتهم لمساعدة الآخرين.
رابعًا: ضعف القدرة على تحمل الأحداث المؤلمة والتغيرات المفاجئة، التي يتفاعل معها المسنون بحدة أكبر من تفاعل الأطفال والراشدين، لذلك ينبغي عرض المشاكل والأخبار المؤلمة على كبار السن بطريقة لبقة حتى لا تكون صادمة(4).
إن السبب وراء عدم تقبل المسنين لبلوغهم سن الشيخوخة، وشعورهم بالضيق وانزلاقهم في حالات متكررة من الغضب الشديد والانفعالات الزائدة عن الحد، هو افتقادهم للوضوح في تصور دورهم ووظيفتهم في المجتمع، بعد تقاعدهم أو توقفهم عن العمل، لكن شيوخنا الأعزاء ينسون بأن تقدمهم في السن يجعلهم يشغلون أعظم وظيفة، وهي كونهم يمثلون حراساً للقيم النبيلة في المجتمع، ويشكلون قدوة لحسن السيرة والسلوك بالنسبة للأجيال الصاعدة، بالإضافة لكونهم عبرة للشباب لأنهم يذكرونهم بالآخرة.
3. الشيخوخة فرصة لاغتنام الوقت
إن المسنين من حقهم التمتع بأوقاتهم، التي حرموا منها من قبل حين كانوا في زمن تحمل المسؤولية، لكن ما يجعل الإسلام دينًا يتميز بالأصالة في تعامله مع مرحلة الشيخوخة، هو عدم وقوعه في الخطأ الشائع داخل الثقافة الغربية، التي تطلق العنان للمسنين لاستغلال كل دقيقة من حياتهم في التلذذ بمتع الحياة الفانية، من أسفار ورحلات وارتياد للنوادي الرياضية والفنية والترفيهية، إن كل هذه الأنشطة هي حسنة ومحمودة، لكن لا ينبغي أن تكون كل أوقات المسنين منصرفة لتحقيق رغباتهم الدنيوية.
إن الإسلام يخلق توازنًا إيجابيًّا في حياة المسن، بحيث يدعوه لتخصيص جزء من وقته للترفيه والترويح عن نفسه، أما الجزء الأعظم من الوقت فينبغي أن يملأه بالطاعات من الصلوات في المساجد، ومساعدة المحتاجين وصلة الأرحام وزيارة الأحباب والأصدقاء، وينبغي لشيوخنا الأجلاء أن يحرصوا على المداومة والاستمرار على ذلك، حتى يلقوا الله تعالى وهو راض عن صنائع الخير هاته التي اجتهدوا في تحصيلها.
أما إن أراد شيوخنا الأجلاء أن يُتَوِّجوا كل أعمالهم في الدنيا، فما عليهم إلا أن يلجئوا إلى أرقى العبادات وأجملها على الإطلاق، وهي الرضى بما كتب الله عليهم من مظاهر الضعف في شيخوختهم وحمده سبحانه وتعالى على هذا الحال، ولا يستطيع بلوغ هذه المرتبة العالية إلا الشخص المسن الذي أدرك الحكمة من تراجع قدراته العضوية والنفسية في نهاية عمره، فالله ينظر لرد فعل عبده المسن، هل سيحمده في حالة ضعفه كما حمده على القوة التي أمده بها في شبابه؟! فلا تدوم القوة إلا لله جل علاه، أما الإنسان فقدراته تخضع لقانون المد والجزر، ولو كان الشيوخ منصفين لنظروا لما زادتهم الشيخوخة من صفات حميدة ولا ينظروا فقط لما أخذت منهم، فهي تزيدهم وقارًا وضياء وهيبة، فكم من مسن إذا شاهدت وجهه المتلؤلؤ فإنه يزرع في قلبك حب الشيخوخة، ويثير في نفسك الشوق لتصبح يوماً ما شخصاً كبير السن، لتتميز أنت أيضًا بما يتميزون به الشيوخ من بهاء وسكينة واطمئنان.
إن الشيخوخة إذن هي زهرة العمر، لأنها أكثر مراحل حياة الإنسان اتصافًا بالنضج، وامتلاء بالعمل وتحقيقًا للنجاحات الكبرى في الدنيا والآخرة، مما يجعلها تستحق إعجاب الشباب وتنال تقديرهم.
المراجع
(1) Georges AKOKA et Autres, « Le troisième âge », PP : 1686 – 1695, ENCYCLOPEDIE L’HOMME DU XX° SIECLE ET SON ESPRIT, VOLUME 7, Ed OKAD , Rabat – Maroc 2007.
(2) Georges AKOKA et Autres, « Le troisième âge », P : 1686.
(3) Derk-Jan DIJK, « Age, rythmes et lampe de chevet », PP : 44-45, N°2 Hors Série, Avril 2000, In Revue la Recherche, Ed Société d’Editions Scientifiques, Paris – France 2000.
(4) Georges AKOKA et Autres, « Evolution psychologique Normale du vieillissement », PP : 1731 – 1739, ENCYCLOPEDIE L’HOMME DU XX° SIECLE ET SON ESPRIT, VOLUME 7, Ed OKAD , Rabat – Maroc 2007
رضى الحمراني |
المصدر: مجلة حراء