أهمية ورد المحاسبة مع الأبناء
كل عمل ناجح لابد أن يقوم على ركن التقييم والتقويم والمتابعة ، فأنت في عملك يقدم عنك تقرير سنوي أو نصف سنوي عن آدائك في هذه الفترة من العام ، يقيَّم فيها آدائك الوظيفي وسلوكك بين زملائك وتعاملاتك مع الإدارة ..كذلك فإن أبنائك في المدرسة يعقد لهم امتحانات شهرية أو موسمية لتقييم آدائهم
وعلى مستوى المؤسسات والوزارات لابد أن يقدم تقرير شهري أو سنوي عن مستوى الآداء وحجم الانجازات..
وبناء على هذا التقييم يقيم الإنسان ذاته ويحاسب نفسه ويحاول أن يرفع من مستواه ويتلافى أخطائه..
وقد اهتم علماء النفس والتربية بهذا الأمر ، وحددوا له مصطلحاً يسمى "بالتغذية الراجعة" أو "feedback" وعرفوه بأنه عملية تزويد الفرد بمستوى أدائه لدفعه لإنجاز أفضل على الاختبارات اللاحقة من خلال تصحيح الأخطاء التي يقع فيها .
* ولأن ديننا الحنيف هو دين الإصلاح وتزكية الأنفس ورفع الدرجات فقد حثنا المولى عز وجل على تقييم الذات ومحاسبة النفس للارتقاء وبلوغ الأفضل..هذا من قبل أن يكتشف الغرب أهمية ذلك أو يدرك العلماء قيمة التقييم أو محاسبة النفس بالمفهوم الإسلامي..
معنى محاسبة النفس:
محاسبة النفس : هي تهيئة الوازع الديني في النفس، وتربيتها على تنمية اللوم الباطني الذي يجردها من كل ما يقف أمامها عقبة في طريق الصفاء والمحبة والإيثار والإخلاص.
وقد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }.
قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيرِ قولِه تعالى: { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ }: (( أي حاسبوا أنفسَكم قبل أن تحاسبوا وانظروا ماذا ادخرتُم لأنفسِـكم من الأعمالِ الصالحةِ ليومِ معادِكم وعرضِـكم على ربِكم ، واعلموا أنه عالمٌ بجميعِ أعمالِكم وأحوالِكم ، لا تخفى عليهِ منكم خافيه ))
وقال وهب فيما ذكره الإمام أحمد رحمه الله: ( مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل، أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوته الذين يخبرونه بعيوبه ويَصدقونه عن نفسه، وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات وإجماماً للقلوب ).
وقال ميمون بن مهران: ( لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوّان إن لم تحاسبه ذهب بما لك ).
ماذا تقدم محاسبة النفس:
1- تثمر الشعور بالمسؤولية تجاه الله تعالى وتجاه خلقه ، فبالمحاسبة يفهم الإنسان أنه ما وُجد عبثاً ، وأنه لابدَّ راجع إلى الله تعالى، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة”
2- علو الهمة فترك أنفسنا لأنفسنا دون محاسبة أو مراقبة يجعل الهمة تفتر ويتباعد ما بين المرء وقدرته على العطاء في مجاله ، وتتكالب عليه شواغل الحياة لذلك قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) } سورة التغابن ..وأذكر هنا قصة رواها الشيخ وجدي غنيم عن هذا الشاب الذي كان يلقب بحمامة المسجد.."حيث قال تركت نفسي لنفسي فغلبتني.."
3- تلافي الأخطاء البسيطة قبل أن تكبر وتتضخم ولا يستطيع المرء تداركها ، وتطويع النفس على الطاعة قبل أن تنفر وتفر ولذلك قال ابن قدامة في منهاج القاصدين: ( واعلم أن أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، وقد أمرت بتقويمها وتزكيتها وفطامها من مواردها وأن تقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها، فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفر بها بعد ذلك وإن لزمتها بالتوبيخ رجونا أن تصير مطمئنة، فلا تغفلن من تذكيرها.
وكان الأحنفُ بن قيسٍ يجيءُ إلى المصباحِ فيضعُ إصبَعهُ فيه ثم
يقول : يا حُنيف ، ما حمَلَكَ على ما صنعتَ يومَ كذا ؟ ما حمَلَكَ على ما صنعتَ يومَ كذا ؟
ولكن هناك فارق بين المحاسبة وجلد الذات التي لا تؤدي إلا للتوبيخ والتقريع وإضعاف الثقة بالذات ، أما المحاسبة الإيجابية فهي التي تضع اليد على أوجه التقصير وتوجه لتلافي الخطأ في المستقبل.
ولذا فإن ورد المحاسبة من أفضل الصور في محاسبة الذات ، والمتمثل في مجموعة من الأسئلة تتعلق بالجانب الإيماني والعبادي والروحي وكذا الأخلاقي والسلوكي والمعاملاتي ، تخص على وجه التحديد العلاقة مع الله عز وجل من صلاة فرائض ونوافل وصيام وزكاة وقراءة قرآن وذكر ومأثورات وزيارة مقابر وإتباع جنائز وعيادة مرضى وأعمال صدقة وبر ومعروف ، وأيضا أحوال القلب وأمراضه من حسد وبغضاء وكبر وجفاف روحي ، والجانب السلوكي أيضا والحال مع الآخرين من أهل وأرحام وجيران وزملاء وإخوان ، والنصيب من أصول الأخلاق الإسلامية من صدق وأمانة وصبر وحياء وغيرها .
يعرض الفرد نفسه يوميا وأسبوعيا وشهريا عليها ــ أي أسئلة الورد ــ في جلسة مصارحة يحاسبها على مدى التزامها بهذا الجدول ، ويحدد بصدق نصيبها من كل مجال ونقاط قوتها ونقاط ضعفها ، ثم يحدد لها العلامة ، ويعزم على العلاج للثغرات والنقائص واستدراك جوانب الضعف الذي وجده وهكذا.حيث يحول العمل إلى درجات في الدنيا يحصل عليها المرء ، ويقوم ذاته من خلالها وبالتالي يجتهد لرفع درجاته ويراقب نفسه ولا يدعها لشواغل الدنيا ..
أثر ورد المحاسبة على الأبناء:
إذا كانت المحاسبة لها أهميتها البالغة في عالم الكبار فهي أهم وأنفع في عالم الصغار حيث يكون سن التربية وغرس القيم والتهيئة الأخلاقية وتكوين العادات وبناء الشخصية ، ولذا لابد للأمهات من تدريب الأبناء منذ الصغر على ورد المحاسبة ، ويمكن وضع جدول التقييم في مكان بارز في حجرة الأطفال بحيث يتم تغييره أسبوعيا ويتم فيه وضع خانات لما يلي: الصلاة في أول الوقت ، أذكار ما بعد الصلاة ، سنن الصلاة ، تلاوة القرآن ، الدعاء ، الصدقة أسبوعي ، أذكار الصباح والمساء ، ذكر الأسبوع الصلاة على النبي ، قيمة الأسبوع ( التسامح) مثلاً
أثر ورد المحاسبة على الأبناء:
1- يتعلم الابن من أبويه تحمل المسؤولية والصدق مع النفس في محاسبتها..
2- يرفع لدى الابن الهمة لبلوغ الأفضل والارتقاء في المراتب الإيمانية ، خاصة وهو يرى أن طاعاته محل تقويم ومراقبة ، وليست مجرد أعمال شكلية هامشية لا تحتل المرتبة الأولى من أولويات حياته..
3- تربية الضمير الإيماني في مراقبة الذات ، وبالتالي يكون الابن مراقب لذاته حتى ولو بعيد عن عين أبويه.
4- يربي لديه روح التنافس في الطاعة خاصة حينما تكون المنافسة بين أخوته..
5- يحول الشيء الغيبي وهي الحسنات والثواب والدرجات الإيمانية إلى أشياء ملموسة يشعر بأثرها في الدرجات التي يحصل عليها في ورد المحاسبة وهو أقرب لمدركات الطفل...
6- يمكن للأم إضافة ما تشاء من قيم تريد غرسها في الأبناء أو تريد تقييمها من خلال ورد المحاسبة وبالتالي فهو أسلوب تربوي جيد يساعد الآباء في تربية الأبناء..
7- كما يمكن إضافة خانة التفاعل مع قضايا الأمة في ورد المحاسبة تفاعلاً مع الأحداث ، وذلك بتشجيع الأبناء على متابعة الأحداث ، والمشاركة في فعاليتها كالوقفات الاحتجاجية وكتابة اليافطات ورسم الصور وجمع التبرعات ولو بالقليل..
أ. شروق محمد