تعلم الدوافع بين الوراثة والبيئة

كاتب المقال: د.صلاح الدين السرسى
التاريخ: السبت, أبريل 25, 2015 - 15:21

في مناقشتنا للحاجات الأوَّلية عند المولود الحديث، ذكرنا أن بعض الحاجات الأوَّلية؛ مثل الجوع، قد تَصل إلى درجة من القوة عند الرضيع أعلى مما تصل عند الكبار. لكن هناك حاجات أخرى -كما سنَتبين فيما بعد- من بينها الجنس تَزداد قوتها كلما تقدم النمو، كذلك يبدو أن هناك فروقًا بين الأفراد فيما يَتصل بمبلغ قوة هذه الحاجات وتكررها.

وهذه الفروق -التي ترجع فيما يبدو وبصفة جزئية إلى العوامل الوراثية- قد تؤثر في التعلم. لهذا كان من الممكن أن يقال إن الفروق الوراثية قد تُؤثر في عملية التعلُّم عند الطفل الصغير. مثال ذلك أن الدليل التجريبي يُشير إلى أن الأفراد يَتفاوتون في مَبلغ قابليتهم لتحمل الألم، بحيث يُصبح الطفلُ -الذي هو أقل قابلية لتحمل الألم- أكثرَ تعرضًا للقلق الشديد من غيره من الأطفال، وأكثر ميلًا إلى أن يَرتبط القلقُ عنده بأمارات أكثر. كما أن الطفل -الذي يَرتفع دافع الجوع عنده إلى مُستويات أعلى من غيره- يَكون أكثر استعدادًا لتعلم أساليب سلوكية أكثر وحاجات اجتماعية أكثر من ذلك النوع الذي يَتمركز حول تخفيض حدة الجوع، ولتعلم هذه الأمور بدرجة أكبر من القوة، من ذلك الطفل ذي الدافع الضعيف.

على أن الوراثة يُمكنها أن تُؤثر في نمو الحاجات والأفعال المتعلمة من نواحٍ أخرى، بالإضافة إلى ما تُحدثه من فروقٍ بين الأفراد في مبلغ قوة الحاجات الأوَّلية. أليس من الواضح أن الوراثة هي التي تَقوم بتحديد جنس الطفل، من حيث الذكورة والانوثة؟ ألا يعني هذا أن الوراثة تُؤثر -ولو بطريقة غير مباشرة- على الأقل في الأسلوب الذي سوف يُعامل به الطفل، وفي الآمال أو التوقعات التي سيعقدها الأبوان على الطفل، وبالتالي في نوع الدوافع أو المهارات التي سيقوم بتعلمها.

ثم إن الوراثة تلعب دورها في تحديد للقابلية العقلية للفرد، ولهذا نجدها تؤثر تأثيرًا قويًّا في نوع الدوافع والاستجابات التي سيُثاب الفرد عليها بواسطة المجتمع. من ذلك أن الطفل -الذي هو دون المتوسط في الذكاء- لا يحتمل أن يثيبه المجتمع على اجتهاده في الدراسة، أو على أنه يُريد أن يَصِير طبيبًا أو محاميًا أو مدرسًا. كما أننا لا نتوقع لمثل هذا الطفل أن يُثيبه المجتمع على أنه حاول كتابة المقالات لصحيفة المدرسة، أو تمثيل المدرسة في فريق الشّطرنج، أو في تمثيل جماعة الناظرات بالمدرسة في المسابقات بين المدارس. وإنما يُتوقع من مثل هذا الطفل أن يكون تابعًا أكثر منه قائدًا.

والوراثة قد تؤثر في قوة الفرد البدنية وفي نشاط الجهاز العصبي المستقل عنده وفي مبلغ تعرضه للمرض، بل إن الوراثة قد تساعد في تحديد ما إذا كان الفرد ستتحقق فيه مفاهيم المجتمع عن جمال المظهر أو قبحه. وهذه عواملُ قد تُؤثر -بدورها- تأثيرًا قويًّا في نمو الحاجات المتعلَّمة عند الفرد في المستقبل، وفي الخصائص التي تتميز بها استجاباته.

 

العوامل البيئية التي تؤثر في الدوافع المتعلمة:

 

الفروق التي نَجدها بين الأطفال -من حيث قوة الدوافع المختلفة وتكرار ظهورها- يرجع بصفة جزئية إلى ما هناك من فروق بين آباء الأطفال وأصدقائهم، من حيث جهاز القِيم عندهم، وبالتالي إلى الفروق والاختلافات بينهم من حيث السلوك الذي يقومون بإثابته.

ولكن هذه الأمور تتأثر -بدورها- بعواملَ أعمَّ وأشملَ؛ مثل طبقة الطفل الاجتماعية، والجماعات العنصرية والدينية التي يَنتمي اليها وتربيته في الأسرة. من ذلك مثلا أنَّ السلوك العدوانيَّ من الطفل نحو أقرانه قد يُؤدي إلى التقبُّل من جانبِ بعض الأسرة، فتراها تقول عنه: "هذا الولد سَبُع. وهو لا يَعرف الخمول"، على حين أن بعض الأسر الأخرى قد تشكو من مثل هذا السلوك، فتقول: "هو دائما مشتبك في مشكلة ما. إنه سيؤدي بنا إلى الجنون. لقد ضبطته اليوم وهو يَعبث ببعض ما يَخص والده، ولذا فقد ضربته وحكمت عليه بالتوجُّه إلى السرير للنوم".

 

كما أن أطفال الزنوج لا يزالون يُثابون على استجابات الخضوع لأصحاب السلطة، ويُعاقَبون بشدة على السلوك العدواني. على حين أنَّ العكسَ أقربُ إلى أن يكون صحيحًا بالنسبة للأطفال البيض. كذلك نَجد أن الأمريكيين -عامةً- يُثابون إن كان سلوكهم قائمًا على الاعتداء بالنفس، والتباهي بها (assertive behavior). على حين أن أفراد قبيلة الزوني من الهنود الحمر (zuni Indians) يَصدمهم ويَسوؤهم أن يَروا مثل هذا السلوك من أحدهم، ولا يقومون أبدًا بإثابته في أطفالهم. وبالنسبة للأمريكيين الرواد الأوائل، حيث كانت العوامل المناخية والطوبوغرافية تَشتركان في الحيلولة بين الإنسان وبين إشباع حاجاته الأوَّلية، كان السلوك العدواني أمرًا يُشجِّع الفرد عليه. على حين أن هذا السلوك العدواني لا يكاد يُثاب في بعض البلاد المدارية، حيث لا يكون في الحصول على الطعام أو المأوى إلا أقلُّ المشاكل، وحيث لا يكون من اللازم الالتجاءُ إلى السلوك العدواني من أجل إشباع هذه الحاجات الأوَّلية. وأمثال هذه العوامل البيئية وتأثيرها على النمو النفسي للفرد سنتناولها بالشرح والتفصيل في مقالات لاحقة.

سجل دخول أو إنشئ حساب جديد الأن لإضافة تعليق.