الفكر التربوي عند الغزالي
لم يُعرف الإمام الغزالي بتخصصه في علم من العلوم أو فن من الفنون ، بل كان اسمه يتردد على رأس كل قائمة تضم علماء الفقه أو الأصول أو الكلام أو التربية أو التصوف أو الفلسفة أو علم النفس ، فهو مدرسة جامعة ، ومرجع كبير. غير أنه لم ينل في علم الحديث والرواية كما نال في بقية العلوم إذ تجد كتبه تضم الصحيح والضعيف بل والموضوع من الأحاديث دون توثيق أو تخريج ، وهذا ما دفعه آخر أيامه إلى الاهتمام بهذا العلم ومحاولة التبحر فيه غير أن المنية عاجلته قبل أن يتم ما بدأ .
والمتفحص المنصف في تراث هذا الإمام الكبير يجده متميزا عن غيره من علماء عصره ـ بل ومن جاء بعده في العصور المتأخرة ـ بميزة رائعة في تاريخ العلوم عند العرب والمسلمين ، ألا وهي الفكر المنهجي الدقيق الذي تلمسه واضحا جليا في كتابته باختلاف مواضيعها وفروعها .
ويركز الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي على هذه النقطة فيقول : "ولست أدري ماذا أقول في مصدر هذه المزية العجيبة لديه: أهي فطرة فطره الله عليها، فهو منذ نشأته العلمية، كان يتناول المسائل والمباحث العلمية المختلفة بتلك الفكرة المنهجية المبرمجة، أم هي أثر خلّفته في فكره دراساته المنطقية والفلسفية، فتمرس بها واعتاد عليها ولازمها في كل ما يكتب أو يؤلف فيه. ومهما يكن فإنك لا تكاد تقرأ للغزالي بحثاً في أي من العلوم العقلية أو النقلية إلا وتجده يسير بك في تحليل هذا البحث ودراسته، من خلال منهج دقيق متبصّراً!.. فهو يبدأ بتفتيت كل المسألة إلى أجزائها، أو كلي الموضوع الواحد إلى جزئياته. ثم يضع تلك الأجزاء أو الجزئيات تحت مجهر السبر والتقسيم، ويُخضعها جميعاً لاستقراء الاحتمالات العقلية كاملة، ثم ينقد تلك الاحتمالات واحداً إثر آخر، ويكشف عما قد يكون في تضاعيف كل منها من الزغل ومظاهر البطلان؛ إلى أن يوصله منهج السبر العقلي، وطريقة الطرح والإسقاط، إلى مكمن الحق ومنبعه بين تلك الفرضيات والاحتمالات كلها. فيمعن عندئذ في تجليته وصقله باستخراج البراهين العلمية المتفقة مع نوع ذلك الموضوع وطبيعته. ثم لا يتركه إلا وقد حصّنه في سور من القناعة العلمية وفي كسوة من البيان الرائع والأسلوب المبسّط الأخّاذ!.." .
وقد يظن ظان أن هذا الأسلوب اختص به الغزالي العلوم المنطقية والفلسفية والعقلية التي تحتاج للتفتيت وسبر الأغوار والبحث والتنقيب ، ولكن الغريب أنه التزم هذا المنهج في جميع ما كتب وألف ، حتى في شرح مواجيده الصوفية وتأملاته الروحية ، بل ووصاياه ومواعظه . فإذا قرأت (تهافت الفلاسفة) أو (المستصفى) أو (ميزان العمل) أو(الاقتصاد في الاعتقاد) أو(القسطاس المستقيم) أو(المنخول في الأصول) أو (المنقذ من الضلال ) أو الدرة العظيمة بين مؤلفاته ( إحياء علوم الدين ) وجدت هذا المنهج واضحا ملموسا يحمله القارئ كشعلة منيرة يسير بها في أرجاء هذه المؤلفات الرائعة .
وقد التزم الإمام الغزالي في منهجه هذا اليسر والسهولة وقرب المأخذ حتى ليستطيع القارئ العادي الذي لم يدرك التخصص أو التعمق أن يتذوقه ويفهمه ويلم به ويتفاعل معه ، وربما يعود السبب في ذلك إلى أن هذا الإمام العظيم كان ِيمتلك أفكار الناس ويجتذبها إليه ويبني على أساسها حججه المقنعة في ترتيب الدلائل والمقدمات والنتائج ، مكونا منها بعد ذلك أسلوبا رائقا يتسم بسلاسة العرض وسهولة البيان . ولعل طول باعه ، وثبات جذوره في ميادين العلم المختلفة يسر له دعم آرائه وأفكاره أيا كانت بالحجة القاطعة والدليل المقنع والبرهان الساطع .
ولقد كان من آثار ذلك كله، أنك تنظر فتجد أن كتاباته كلها تتسم بطابع كلي واحد، مهما تنوعت مضامينها واختلفت أو تباينت العلوم التي تعبر عنها. فطابع المحاكمة العقلية، والتنسيق والتقسيم، والتحليلات النفسية والفلسفية، هو الصيغة العامة التي تبرز في سائر مؤلفاته وكتاباته.
ولقد تبين للغزالي بعد طول تطواف في مختلف العلوم والأفكار أن هذه الأمة تحتاج إصلاحا جذريا يعتمد على منهج آخر غير المنهج الرسمي الذي يختزن العلم والثقافة في فئات بعينها يتم تعليمهم أو تلقينهم ليتسنموا بعد ذلك المناصب العامة أو الوظائف السلطانية .
ولذلك نرى الإمام الغزالي يركز على الأهداف التي تؤدي إلى رفع المستوى الروحي والخلقي والفكري والاجتماعي والسياسي للفرد خاصة وللمجتمع عامة ، أي أنه أراد إعادة صياغة منظومة القيم التربوية الكاملة لتتسق مع الغايات الكبرى التي حرص الإسلام كل الحرص على غرسها في قلوب معتنقيه ، ومتابعة تعهدها بالإنماء والتطور.
ولا نبعد كثيرا إذا قلنا أن فلسفة التربية عند الغزالي تعتبر أكمل بناء فلسفي في التربية الإسلامية ، وأن هذه الأهداف والغايات هي النواة الأولى لعلم النفس الإسلامي .
ومن أهم هذه الأهداف والغايات ما يلي:
1- الكمال الإنساني: وذلك بارتقاء النفس الإنسانية من مجال الحس إلى مجال التفكير، والارتقاء بالإنسان من مستوى الخضوع للأهواء والشهوات إلى مقام العبودية لله .
2- تربية النفس على الفضيلة: فقد ركز الإمام الغزالي على أساسيات الفضائل، واعتبرها أربعة هي: الحكمة والشجاعة والعفة والعدل.
ويرى أن تحقيق الفضيلة إنما يكون من خلال تصفية القلب لذكر الله تعالى، والعمل على تزكية النفس وتهذيب الأخلاق.
ويؤكد الغزالي على أهمية الفضائل ودورها في ضبط قوى النفس الإنسانية، وتنمية الاستعدادات الفطرية الخيرة فيها.
3- تهذيب قوى النفس الإنسانية: وهو يرى أن ذلك لا يعني قمع نزعاتها وغرائزها واستئصالها تماما، فإن ذلك مخالف لفطرة الإنسان وطبيعته؛ لأن الشهوة إنما خلقت لفائدة، ولها وظيفة لا غنى للإنسان عنها، ولا بقاء له من دونها، فشهوة الطعام ضرورية لحياته ونموه، وشهوة الجنس تحفظ النسل وتساهم في بقاء النوع الإنساني، ولكنه يربط هذه الشهوات بالاعتدال والعفة والعقل.
4- حسن توجيه طاقات الأمة: فالغزالي يؤكد على أهمية حفظ طاقات النفس وتوجيهها للإفادة منها على النحو الأمثل، كما دعا إلى ضرورة تخليص الأمة من الشهوات المفسدة للروح الإسلامية، وأكد على الأثر التهذيبي للشريعة الإسلامية في كل من الفرد والمجتمع.
5- تكوين الشخصية المتوازنة: ويركز الغزالي في التربية الخلقية على المكونات الرئيسية للنفس الإنسانية وهي: العقل والروح والجسم، وينظر إليها باعتبارها كيانا واحدا متكاملا، ومن ثم جاء تأكيد الغزالي على بعض الأساليب والطرائق التربوية التي تتناول تلك المكونات بشكل متكامل ومتوازن، كالمجاهدة والرياضة لتزكية القلب والروح، والتفكر لتربية العقل، وترقية النفس الإنسانية في مجالات الإدراك، واللعب لتربية الجسم وتنشيط العقل والحواس.
6- إرضاء الله سبحانه وتعالى: دعا الغزالي إلى توخي إرضاء الله تعالى، وحذر من مطامع الدنيا الفانية، وحث على إحياء الشريعة الإسلامية والتماس رضوان الله تعالى، ولذلك فهو يرى أن من أهداف التربية الخلقية إعداد الإنسان في هذه الحياة الفانية للدار الآخرة الباقية .
إن كل ما سبق يعتبر غايات كبرى وأهدافاً عامة لا بد من إيجاد آليات للوصول إليها وتطبيقها ، وهذا ما فعله الغزالي عندما رأى أن الأسرة هي المفتاح الأول الذي يفتح مغاليق التربية
فالطفل أمانة في عنق والديه وعلى يديهما تتشكل شخصيته ، فعلى الوالد أن يؤدب ابنه ويهذبه ويتعده بالرعاية والتعليم .ويعلمه آداب المائدة والسلوك القويم وحسن معاملة الناس وينشئه النشأة الصالحة الخشنة البعيدة عن الدلال ، ومحور التربية في هذه الفترة هو الدين وعلومه . فيبدأ الطفل منذ الصغر بحفظ القرآن والأحاديث وما يتعلق بهما من القراءة والكتابة. حتى إذا كبر الصبي وآثر المضي في طلب العلم فعليه أن يتحمل مشقة طلب العلم وجهاده .
وللغزالي في آداب المتعلم درر لو أخذت بها الأمة الآن لأحرزت قصب السبق في كثير من العلوم الدينية والدنيوية .
ولعله من المفيد أن نذكر بعض هذه الدرر التي سماها الغزالي ( وظائف) :
الوظيفة الأولى : تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذموم الأوصاف إذ العلم عبادة القلب وصلاة السر وقربة الباطن إلى الله تعالى .
الوظيفة الثانية : أن يقلل علائقه من الاشتغال بالدنيا ويبعد عن الأهل والوطن فإن العلائق شاغلة وصارفة ، ومهما توزعت الفكرة قصرت عن درك الحقائق ولذلك قيل " العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه إياك بعضه على خطر " .
الوظيفة الثالثة : أن لا يتكبر على العلم بل يلقي إليه زمام أمره بالكلية في كل تفصيل ويذعن لنصيحته إذعان المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق. وينبغي أن يتواضع لمعلمه ويطلب الثواب والشرف بخدمته.
الوظيفة الخامسة: أن لا يدع طالب العلم فناً من العلوم المحمودة ولا نوعاً من أنواعه إلا وينظر فيه نظراً يطلع به على مقصده وغايته ثم إن ساعده العمر طلب التبحر فيه وإلا اشتغل بالأهم منه واستوفاه وتطرف من البقية .
الوظيفة السادسة: أن لا يخوض في فن من فنون العلم دفعة بل يراعي الترتيب ويبتدىء بالأهم.
الوظيفة السابعة: أن لا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله فإن العلوم مرتبة ترتيباً ضرورياً وبعضها طريق إلى بعض والموفق من راعى ذلك الترتيب والتدريج.
الوظيفة الثامنة: أن يكون قصد المتعلم في الحال تحلية باطنه وتجميله بالفضيلة ، ولا يقصد به الرياسة والمال والجاه ومماراة السفهاء ومباهاة الأقران.
الوظيفة التاسعة: أن يعلم نسبة العلوم إلى المقصد كيما يؤثر الرفيع القريب على البعيد والمهم على غيره - ومعنى المهم ما يهمك - ولا يهمك إلا شأنك في الدنيا والآخرة.
وكما اهتم الغزالي بتربية المتعلم وتأديبه اهتم أيضا بتوجيه المعلم ونصحه ، فأفرد له في مجال التربية وظائف كثيرة منها على سبيل المثال :
الوظيفة الأولى: الشفقة على المتعلمين وأن يجريهم مجرى بنيه ؛ ولذلك صار حق المعلم أعظم من حق الوالدين فإن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية والمعلم سبب الحياة الباقية ، ولولا المعلم لانساق ما حصل من جهة الأب إلى الهلاك الدائم .
الوظيفة الثانية: أن يقتدي بصاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه فلا يطلب على إفادة العلم أجراً ولا يقصد به جزاء ولا شكراً بل يعلم لوجه الله تعالى وطلباً للتقرب إليه ، فمن طلب بالعلم المال كان كمن مسح أسفل مداسه بوجهه لينظفه فجعل المخدوم خادماً والخادم مخدوماً وذلك هو الانتكاس على أم الرأس.
الوظيفة الثالثة: أن لا يدع من نصح المتعلم شيئاً وذلك بأن يمنعه من التصدي لرتبة قبل استحقاقها ، والتشاغل بعلم خفي قبل الفراغ من الجلي ثم ينبهه على أن الغرض بطلب العلوم القرب إلى الله تعالى دون الرياسة والمباهاة والمنافسة ويقدم تقبيح ذلك في نفسه بأقصى ما يمكن فليس ما يصلحه العالم الفاجر بأكثر مما يفسده. وقد رؤي سفيان الثوري رحمه الله حزيناً فقيل له: مالك فقال: صرنا متجراً لأبناء الدنيا يلزمنا أحدهم حتى إذا تعلم جعل قاضياً أو عاملاً أو قهرماناً.
الوظيفة الرابعة: - وهي من دقائق صناعة التعليم - أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح. وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ فإن التصريح يهتك حجاب الهيئة ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف ويهيج الحرص على الإصرار .
الوظيفة الخامسة: أن المتكفل ببعض العلوم ينبغي أن لا يقبح في نفس المتعلم العلوم التي وراءه .
الوظيفة السادسة: أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقى إليه ما لا يبلغه عقله فينفره أو يخبط عليه عقله . سئل بعض العلماء عن شيء فلم يجب فقال السائل: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من كتم علماً نافعاً جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار " فقال: اترك اللجام واذهب فإن جاء من يفقهه وكتمته فليلجمني.
الوظيفة الثامنة: أن يكون المعلم عاملاً بعلمه فلا يكذب قوله فعله لأن العلم يدرك بالبصائر والعمل يدرك بالأبصار وأرباب الأبصار أكثر.
ومثل المعلم المرشد من المسترشدين مثل النقش من الطين والظل من العود فكيف ينتقش الطين بما لا نقش فيه ؟ ومتى استوى الظل والعود أعوج ، ولذلك قال علي رضي الله عنه قصم ظهري رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك ، فالجاهل يغر الناس بتنسكه والعالم يغرهم بتهتكه.
وبعد..فليس ما سبق سوى إيجاز سريع لإسهامات هذا العالم الفذ في مجال التربية ،وقد كان رحمه الله موسوعة تمشي على الأرض ، ولو أردنا استقصاء نظراته وخواطره وآرائه وإسهاماته التي اعتبرت بعد ذلك قواعد ومنطلقات لكثير من العلوم الحديثة لما كفتنا في ذلك المجلدات ذوات العدد .
وحسبنا أن عرضنا بعض آرائه التي مضى عليها أكثر من ثمانية قرون ورغم ذلك يشعر القارئ لها أنه أمام عالم نفسي معاصر أو مرب حديث متشبع بالاتجاهات الإنسانية النبيلة والفهم الواعي للنفس البشرية .
د. محمد محمد فريد