ثنائية السحر والجنون
هناك قاعدة لدى المختصين في التثقيف الصحى وعلماء النفس تقول أن أصعب مايمكن تغييره من مفاهيم خاطئة هو مايرتبط بالمعتقد أو يكون عادة متأصلة ويحتاج تغييره لسنوات وحتى عقود من الزمن نحو منهجية مدروسة تضع الخطوات المرحلية وتبدأ بتهيئة المجتمع للحديث عن المفهوم يتلوه بث روح الإهتمام لمعرفة المزيد عنه من خلال البحث في ماهيته ومقارنة الحقيقة بالوضع الراهن ونقله من مرحلة المسلمات إلى قبول النقاش حوله ثم تبدأ بعدها مراحل التغيير ومن هذا المنطلق تبنت ميكنة الإعلام في العصر الحديث الدور الرئيسي للتسويق للأفكار ثم تلقفت الشركات المنتجه هذا النحو لتسويق منتجاتها وتبنت كما نقول " تربية" المستهلك منذ الطفولة لتضمن ديمومة استهلاك منتجها كما تبنت مافيا التسويق للمنتجات كسر حاجز الرفض الإجتماعي لمنتجاتها فعلى سبيل المثال لم يكن االتدخين مقبولاً في كثير من المجتمعات العربية وكلنا يذكر الشعور بالعيب عندما يدخن المدخن أمام الوالدين بل وحتى أمام الأسرة الأكبر ومن هم في درجتها من جيران وشيخ القبيلة وكبير العائلة والأستاذ في المدرسة فما هو الحال الآن؟ ثم كلنا يذكر النظرة لتدخين المرأة وكيف تم دخولها إليه من باب الشيشة والجراك والمذاقات التي تناسب المرأة ومن ثم دخلت عالم التدخين من أوسع أبوابه وأصبحت ترى المقاهي عامرة بالجنسين وثالثهما الدخان أو الشيشة.
أردت أن أبدأ بذلك كمقدمة لما تعاني منه مجتمعات كثيرة ومنها المملكة من مفاهيم خاطئة تلقي بضلالها على المرض النفسي ونعته جملة بالجنون والدور الذي يمثلة السحر في ظهور الأعراض النفسية وكيف تنشط مافيا المشعوذين والدجالين بشتى أشكالها للّعب بعواطف البشر من أجل التكسب والسطوة ونيل الحظوة وقد تصل هذه المفاهيم الخاطئة إلى حدود المعتقد في بعض البلدان مما يعيق الجهود في سبيل وصول المرضى إلى المختصين في الوقت المناسب وتحقيق الفائدة المرجوة، كما أن لقلة المتخصصين في مجال الخدمات النفسية وتركزهم في المدن الكبرى - وهذا وارد في تقرير منظمة الصحة العالمية- فرصة لأولئك المشعوذين والدجالين للعب الدور المعيق نحو النهوض بالصحة النفسية للمجتمع وتبدو المناطق النائية والريفية بيئة خصبة لإحتضان وترسيخ هذه المفاهيم كمسلمات مما يزيد من الهوة في سبيل تصحيح هذه المفاهيم، وليس المشكل هنا ماهو السحر وماهو المرض النفسي فالكثير من الكتب تحدثت عن الفرق بينهما ولا أعتقد ان هناك لبس في هذا ولكن السواد الأعظم من المجتمع متأثر بما يروجه أصحاب المصالح وللأسف بعض أنصاف المتخصصين قد جرفهم تيار المصالح فباتوا يمارسون تسطيح دور المختصين بممارسات علاجية منقوصة تعتمد على الشعارات والمسميات ولكنها للأسف كالأكلات السريعة ضرها أكثر من نفعها أدى بعضها إلى التشكيك في فعالية العلاجات النفسية وعزز المفاهيم الخاطئة واللجوء إلى المشعوذين والدجالين والإرتماء في أحضانهم واصبحت وسائل الإعلام وفي مقدمتها الشبكة العنكبوتية تعج بهم وتلقى رواجاً من عامة الناس فهل بات دور المتخصصين مع ندرتهم كما نوهت منظمة الصحة العالمية يسير إلى الغياب عن الساحة أم سيكون لهم موقف.
نشرت بجريدة الرياض
د. محمود عبد الرحمن محمود