كيف نستعيد قيمة الاتقان؟!!
فى مقالة سابقة عرضت فيها لهذا التاقض الذى استشرى فى حياتنا وأصبح وباءًا متفشى ، يطول كل جوانب تصرفاتنا ، ونعانيه ، وجميعنا يجأر بالشكوى منه ، ألا وهو التناقض الحاد الحادث بين قيم ديننا الحنيف وتصرفاتنا ، فلم يوجد فى نصوص الأديان الأخرى ، مايحث على القيم الإنسانية مثل ما نجده فى قرآننا الكريم وأحاديث رسولنا الذى بعث ليتمم مكارم الأخلاق ، فى الوقت الذى تتصف فى سلوكياتنا بالنقيض ، وكان موضوع المقال السابق متعلق بقيمة « اتقان العمل » . واتقان العمل تتجلى مظاهره فى عدة عناصر تتمثل فى الآتى:
1- أداء واجبات العمل ومتطلباته دون أن يشوب هذا الأداءخلل أو خطأ أو تسويف .
2- الالتزام بمتطلبات ذلك العمل والتقيد بضوابطه سواء فى وقته أو مهاراته أوتقنياته.
3- الإلتزام بأدائه في الوقت المحدد دون أدنى تأخير.
4- العمل على تطوير ذلك العمل سواء فى أسلوبه أو تقنياته أو اضافة بعض العناصر التى تجعل المنتج منه أفضل من حيث الجودة ومن حيث الشكل ليظل دائما قادرا على المنافسة .
ومن الطبيعى ان هذا الاتقان يشمل الأعمال اليدوية ، والأعمال الذهنية على حد سواء ، متطلبات يجب توفرها فيمن يقف أمام آلة تشكل وتصنع منتج ما أو من يمسك بالقلم ليخط مقالة أو يكتب بحثا ، أو ينشر بحثا . هذا الاتقان نجده شائعًا فى المجتمعات الأكثر تطورًا من الناحية التقنية أو ما نطلق عليها المجتمعات الصناعية ، بينما نفتقدها أو على الأقل نفتقد ذيوعها وانتشارها فى مجتمعاتنا الاستهلاكية ، حيث نجد الكثير من الحرفيين أو المهنيين يمارسون العمل كحالة اضطرارية مثل من يشرب الدواء مثلاً، أو كما يعبر القرآن الكريم: ﴿كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ﴾ ، يمارسون العمل مضطرين ويتطلعون بلهفة الى اللحظة التى تمكنهم من التخلص منه كأنه حمل ثقيل محمول على ظهورهم يستشعرون راحتهم حال التخلص منه.
هذا السلوك يفصل فصلا تاما بين العمل وبين العبادة ، فى الوقت الذى ينهض الدين فيه على دعامتين أساسيتين : العمل وضمنه المعاملات ، والعبادات ، ولا يصح فصم عراهما على الإطلاق واذا ما تساءلنا على جواز الغش في أعمالنا ،وعما اذا كان الأمر بالإتقان والإحسان على وجه الاستحباب لا الوجوب ، فإن الإجابة بالقطع لا ، فالخطب أعظم وأجل.. إن غش المسلم لأخيه في بضاعة أو لبائع يغش في بضاعته: من السلوكيات الخطيرة الشأن التى حذّر النبي صلى الله عليه وسلم منها وتوعّد فاعله، فالنبي صلى الله عليه وسلم مر على صُبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً. فقال: « ما هذا يا صاحب الطعام؟ » قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: « أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني » وفي رواية « من غشنا فليس منا » وفي رواية « ليس منا من غشنا » [رواه مسلم]. "من غشنا!عمل قد يخرجه من جماعة المسلمين لقوله فليس منا" !! ، الأمر الذى يؤدى إلى فقدان الثقة والاحترام بين أفراد المجتمع،يؤدي إلى انتشار الكذب والخداع، وتنفصم بسببه كثير من الروابط الاجتماعية التي تقوي الأمة، ليتجرأ بعضنا على بعض بالسب والشتم وربما الدعاء بالشر ... كثير من البلبلة والتخبط الذي نراه في حياتنا اليومية يرجع إلى عدم قيام بعضنا بعمله على الوجه المطلوب منه ...
فأين هذا من قول الرسول » : « إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه . وفي نص آخر: أن يحكمه .
وجاء في تفسير الآية الكريمة ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ ليس أكثركم عملاً وإنما أحسنكم عملاً إذ أن المعيار ليس فى الكم وانما الكيف هو المهم.
وقد قام الرسول بترسيخ ذلك الإتقان أمام الصحابه رضوان الله عليهم حينما أنزل سعد بن معاذ في لحده وصار يلحده فيضع لبنة هنا ثم يطلب آجراً ويطلب طيناً رطباً ويرتب الأمر بإتقان حتى لا يكون هناك خلل، فتعجب الصحابة : يا رسول الله هذا قبر، وليس غرفة عرائس فتصنع فيها ما صنعت وتتقنه وتتعب نفسك فيه، فقال الرسول لهم: »إني لأعلم انه سيبلى ويصل البلى إليه و لكن الله يحب عبدا إذا عمل عملا أن يتقنه«.
أعتقد أن الخلل الحادث هالذى يؤدى الى كل هذه المظاهر المرضية قد يعود فى جزء منه الى خلل فى أسلوب غرس العقيدة الإسلامية فى نفوس الناشئة منذ نعومة أظفارهم ، اهتمام ببعض الأمور وجهل أو تحرج فى غرس أمور مهمة ، يحتار فيها الكبار ولا يستطيعون توصيلها للناشئة بالمنهج وبالأسلوب الصحيح المناسب فتكون النتيجة هذا المسخ والخلط الذى يشوب جوانب حياتنا وزواياها . ولنحاول مناقشة هذا الخلل فى المقالة اللاحقة بإذن الله .
د . صلاح الدين السرسي