عبادة خاصة وتقدير متميز

كاتب المقال: الإدارة
التاريخ: الجمعة, يونيو 12, 2015 - 12:26

تعرف عملية " التسامي " فيزيائيا بأنها ( تلك العملية التي تتحول فيها المادة الصلبة او الجامدة الى الحالة الغازية مباشرة دونما ان تمر بالحالة السائلة ). ويوجد عدد قليل من المواد مثل اليود والزرنيخ والكافور والثلج الجاف يمكن أن تتحول إلى غاز بدون انصهارها أولاً. ويطلق على هذه المواد بأنها مواد متسامية. إذ تتحول مادة اليود الصلبة بالتسخين إلى بخار دون المرور على صورتها السائلة، وعندما يتم تبريد هذا البخار يتحول اليود مرة أخرى إلى بلورات صلبة. وهذا التحول من البخار إلى صورته الأصلية هو أيضًا جزء من عملية التسامي. وتُستخدم عملية التسامي في مجال الصناعة لتنقية المواد؛ فعندما تتحول المادة الصلبة مباشرة إلى بُخار فإن ما يتبخر بالفعل هو المادة النقية فقط، بينما تبقى الشوائب مترسبة في القاع. وباستخدام هذه العملية تتم صناعة الكبريت النقي (يطلق عليه أزهار الكبريتوالصمغ الجاوي وكلوريد النشادر.

 هذه العملية استعارها فرويد من مجال العلوم الطبيعية الى مجال النفس الإنسانية ليشير به الى القدرة على تعديل الهدف الجنسي الاصلي الى هدف فني او فكري او علمي، كما أشار أيضا الى امكانية تسامي النزعات العدوانية الى اهداف مقبولة اجتماعية، كالتنافس فى المجال الرياضى والأدبى والفنى والعلمى .

لقد اعتبر فرويد كل مكونات التراث الانساني وعلى مر  العصور صورا من آلية التسامي بالغريزة الجنسية فالفن نتاج تسامي والادب نتاج تسامي وكذلك الطب  والعلم والاختراعات وغيرها كلها نتاج آلية التسامي.  نظرية التسامي الفرويدي ذات رؤية واحدة وهو الجنس ، وقد شوه بهذا الاختزال المخل حقيقة مايملكه الإنسان من قدرات عديدة ، وامكانية للتطوير والارتقاء فى كل مناحى نفسه ، وجوانب بيئته التى يتفاعل معها . لقد نسى أن البقاء على الكائن هو الأهم ، وأن الغذاء هو ما يبقى عليه على قيد الحياة ، ويأتى الدافع الجنسى ، كدافع يهدف الى البقاء على النوع فى مرتبة تالية ، وأن الدوافع الاجتماعية تكتسب قوة ، وطاقة قد تفوق الدافع الفطرى ، دافع الجنس ، وأننا نحتاج الى نظرة أعمق وأشمل للإنسان تتجاوز الدائرة المغلقة التى وضعه فيها فرويد .

فالتسامي هو عملية تحويل واعلاء للدوافع الفطرية والمكتسبة بما فيها الرغبات الجنسية الغير مشبعة الى نشاط أسمى  وأكثر علوا وارتقاءً .

من هذه الزاوية يمكن لنا النظر الى الصيام ، الذى فرضه الله سبحانه وتعالى ، بالامتناع الإرادى والطوعى عن اشباع دافعى الجوع والجنس طوال اليوم ، لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد ، فليس الحرمان من اشباع الدافعين هو الهدف ، انه وسيلة لما هو أعلى وأرفع ، وسيلة التحرر من ربقة القيود الأرضية والتطلع الى سماوات على ، فيها تسمو الروح وترتبط بخالقها من خلال حبل سرى يغنيه عن الطعام والشراب والجنس ، فقد امتنع عن اشباعهما – مؤقتا – تلبية لأوامر الله ، وطاعة له ، كى يتذوق نكهات معنوية أكثر غنى ، وأشد امتاعًا ، يتطلع فيها الى تقوى الله بالتقرب له بالنوافل ، يقوم ليله ، ويعيش فى رحاب كلامه ، يتضرع له ويدعوه ويرجو رحمته ويطلب مغفرته ، ويأمل فى أن يعتقه من النار . ويصوم نهاره متساميا ومتعاليا عن كل ما يشده الى الحياة الدنيوية ، يعلو على هذه البنية التحتية بارادته الحرة أملا فى التقرب من خالقه ، وسعيا منه اليه بكثرة الطاعات والصدقات والقربات ليكون ممن ينعم الله عليهم بدخول الجنة من باب الريان .

روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم؛ فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم، إني صائم. والذي نفس محمد بيده، لخُلُوف فم الصائم، أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه"

فإذا ربطنا كل هذا التسامى لخلصنا الى أكثر من معنى :

فالتسامى عن الطعام والجنس المشروع وكل أشكال المخاصمة وكافة أنواع المنازعات وعدم الاستسلام للغضب أو الاستثارة من الغير يسمو بالصائم الى درجات عليا يقدره له ربه وتقدير ربه لا يقاس بتقدير الإنسان المتواضع .

 كرَّم الله الصوم فنسبه إلى نفسه، دون العبادات كلها، لما لهذه الفريضة من خاصَّة لا توجد في غيرها.

     هذه العبادة لم يعبد بها غير الله سبحانه ... كل العبادات قد عبدت بها الآلهة المزيَّفة،  

     الأصنام التي عبدها المشركون على مر العصور.

الصلاة، كم جُعلت لغير الله، فرُكع وسُجد لغير الله!

الدعاء، كم دُعي غير الله!

القرابين، والصدقات، كم قُدمت لغير الله تعالى؟!

ولكنه لم يُعرف أنه قد صِيم لغير الله تعالى.

هكذا قال العلماء ... وقالوا أيضًا: إن في الصوم خصيصة لا توجد في غيره، وهو أنه لا رياء فيه، أي أن فعل الصوم لا رياء فيه، حيث إنه مجرد إمساك وكف، وامتناع.

والإمساك والامتناع لا يُرى، فهو شيء سلبي، لا يراه الناس، ولهذا لا تدخل المراءاة في الصوم، إلا إذا أَخبر الإنسان عن نفسه أنه صائم.

أما عمل الصوم نفسه، فليس مما يُرى ومما يُحس.

فالصوم عبادة خالصة لله عز وجل، فاستحق أن يُنسب إليه سبحانه، ثم هناك أمر آخر، وهو: ما في هذه العبادة من مشقة، حيث يتسلمى المسلم عن الطعام والشراب ، ويَعلو على شهواته كلها لله سبحانه.

وهذا ما جاء في الحديث الذي رواه ابن خزيمة في صحيحه وغيره: "كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله: إلا الصيام فهو لي، وأنا أجزى به. يَدَع الطعام من أجلي، ويدع الشراب من أجلي، ويدع لذته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي ...".

ومعنى هذا أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي يتولى جزاء الصائمين بنفسه، هو الذي يُعطيهم بيده، والكريم إذا أخذ على نفسه أنه هو الذي يعطى فإنه يجزل، ولا يدع ذلك لوكلائه، ولا لخُزّانه، وإنما يتولى الأمر بنفسه، وعطاء الله لا حدَّ له، فهو أكرم الأكرمين، والغني الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما ..كل هذا جزاء تسامى الإنسان المسلم بدوافعه التى فطره الله عليها وتجاوزه لضروراته الحياتية ، بل والتطوع بالنوافل والقربات فى أيام صومه زلفى للخالق وأملا فى رحمته ، ورجاءً فى كرمه ، وابتغاءً لمرضاته .

  

التسامي " العلو- الاعلاء" فهو كما يرى علماء النفس بأنه الارتقاء او التعالي بنزعات الفرد الغريزية العدوانية او الجنسية الى اتجاه نافع ومفيد ومقبول من الذات والاخرين وصولا لنوع من التوافق الذاتي الداخلي، والتوافق الخارجي مع البيئة. وفي التسامي لدى الانسان يحاول فيه هذا الانسان انسنة سلوكه ويطبعه بمفهوم يطرحه التحليل النفسي بانه.. الانسان بما هو انسان.

اما الكبت يعني رد الانفعالات والدوافع والرغبات ونحوها الى الجزء اللاشعوري من العقل لانها مؤلمة جدا او لانها مناهضة المجتمع وعدم السماح بدخولها في مجال الشعور، فالكبت اذن هي الافكار غير المقبولة وغير المرغوب فيها التي تؤلم الانا ولا يقبلها لتعارضها مع مقتضيات الواقع الخارجي والانا الاعلى وبضمنها الضمير.

يعني الاعلاء"التسامي" Sublimation ،اي العلو في التعامل الانساني مع الذات اولاً ومع الاخر ثانياً وهو يعني ايضاً احداث تغيير في النهاية التي يستهدفها احد الدوافع الغريزية بانواعها بحيث تصبح مقبولة اجتماعياً بعد ان قبلتها الذات وتآلفت معها واصبحت ذات قيمة،ويقول علماء التحليل النفسي ،يجب التمييز بادئ ذي بدء بين التسامي والكبت،ففي الكبت تستبعد الذات الدافع الغريزي عن الشعور استبعاداً تاماً مستعينة بحيلة او اكثر من حيل الدفاع،بينما في التسامي تتقبل الذات الدافع الغريزي ولكنه يحول طاقته من موضوعه الاصلي الى موضوع بديل ذي قيمة ثقافية واجتماعية.ومن امثلة الاعلاء والتسامي في السلوك هو اعلاء غريزة حب الاستطلاع بحيث تتوجه الى روح البحث العلمي او الابداع الفني او الحرفي او الوصول بصاحبها الى اعلى درجات المهارة الفنية في العمل او المهارة الاجتماعية في التعامل مع الناس،وبهذه الوسيلة او الحيلة الدفاعية يمكن ان تسحب العدوانية الفجة من نطاق الخصومات البشرية او تأجيج العدوان بين الناس اومع الذات،وهي وسيلة للتخلص من المشاعر المكبوتة داخلياً وتصعيدها بوسائل مقبولة اجتماعياً حتى تصبح الطاقة المهيئة للنفس القوة الفعالة في مواجهة المصاعب الحياتية او الابداع في العمل الخلاق.

يقول علماء النفس يمكن للتسامي ان يحول جزء لا يستهان به من الدافع الجنسي الى طاقة مقبولة اجتماعياً وابداعياً،بحيث تجلب الانشطة والفعاليات الخلاقة من اي نوع من الاعمال الانسانية بحيث تحقق اشباعاً كافياً للذات.

التسامي- الاعلاء عملية لاشعورية،عملية متدرجة يتم تحقيقها تدريجياً عن طريق التمسك بالمثل العليا ولكن يتم حدوث الاعلاء والتسامي في السلوك ازاء مواقف الحياة المختلفة ،ويجب ان يكون هناك بعض التحكم الشعوري الواضح للدوافع الغريزية ولايمكن تحقيق ذلك إلا من خلال التعرف على مقومات الغريزة،ويقول علماء النفس التحليلي هنا يكمن خطر الكبت.ويقول(د.علي كمال)في عملية التسامي يحول الفرد دوافعه ورغباته غير المقبولة الى مجالات مقبولة شخصياً واجتماعياً،وهي بهذا الشكل تعد من اكثر العمليات النفسية انتشاراً في الكون ويلجأ اليها معظم الناس بدون توجيه،لانها تتم لا شعورياً من وعيهم لتحقيق الرغبات الكامنة داخل الفرد،وخصوصاً التي لا يمكن تحقيقها بشكل طبيعي مقبول ومفيد،لذا فأن معظم النتاجات الرائعة في الادب والشعر والفن والرواية والقصة والرسم هي في الحقيقة مظهر من مظاهر الاعلاء والتسامي فيما يعتلج في داخل النفس من انفعالات غريزية،وجهت نحو العمل الخلاق والمفيد والنافع، ونلاحظ الاعلاء والسمو في السلوك الاجتماعي يظهر جلياً في سلوك المسالمة واللاعنف والتعقل في التعامل الاجتماعي،بينما نرى نقيض ذلك في السلوك العدواني الفردي والجمعي وتحريك غرائز العدوان نحو ايذاء الاخرين وممارسة العنف والقسوة.

ان التسامي – الاعلاء هي حيلة دفاعية،وهي نوع من انواع السلوك او التصرفات التي تهدف الى تخفيف حدة التوتر النفسي داخل النفس الانسانية وتكون عادة مؤلمة تسبب حالة من الضيق وتسبب الاحباط ان لم تجد المنفذ الملائم، واذا ما افلتت زمام الامور فسوف تتحول الى سلوك العنف والعدوان حتى وان كان عنفاً لفظياً يتمثل في الشتيمة والسب والنميمة والغيبة لدى البعض من الناس،اذن التسامي – الاعلاء يعيد التوافق الى النفس وينعكس هذا التوافق في التعامل مع البيئة الاجتماعية الخارجية فضلا عن ان الشخص الذي يستخدم هذه الحيلة الدفاعية يكون مقبولا لدى الناس بما يقدمه من انتاج واعمال فنية او ممارسات سلوكية.ويقول علماء النفس ان توقف الفنان او الاديب او الروائي او الشاعر عن الخلق الابداعي في العمل المنتج في مجال تخصصه قد يدفعه السلوك المكبوت الى صراع داخلي مما ينذر ذلك بالمرض النفسي،وقد ادرك اطباء الامراض النفسية كما يقول د.علي كمال اهمية التسامي – الاعلاء كوسيلة لتبديد الصراعات الداخلية وتحويلها الى مجالات مفيدة ومقبولة شخصياً واجتماعياً ،كما انها تمكن الفرد من الابقاء على هذه الصراعات مكبوتة وبعيدة عن الشعور.يقول (سيجموند فرويد)في كتابه ثلاث مقالات في نظرية الجنس،ان المنبهات القوية الصادرة عن المصادر الجنسية المختلفة تنصرف وتستخدم في ميادين اخرى بحيث تؤدي الميول التي كانت خطرة في البداية الى زيادة القدرات والنشاط النفسي زيادة ملحوظة،تلك احدى مصادر الانتاج الفني،وان تحليل شخصية الافراد ذوي المواهب الفنية ليدلنا على العلاقات المتغيرة القائمة بين الخلق الفني والانحراف والعصاب،بقدر ماكان التسامي كاملا او ناقصاً.. وهكذا فأن هذا الميكانزم الدفاعي الذي يستطيع ان يعيد التوافق والاتزان للنفس،بنفس الوقت يمنحها القوة في ادراك الذات الصحيحة وادراك الاخرين ادراكاً سوياً.

 

 

د . صلاح الدين السرسي 

سجل دخول أو إنشئ حساب جديد الأن لإضافة تعليق.