المرض النفسي ..شبهات وحقائق

كاتب المقال: الإدارة
التاريخ: الاثنين, يونيو 8, 2015 - 08:32

ماذا تعني كلمة " إنسان سوي " : رغم بساطة السؤال إلا أن الإجابة عنه معقدة . فهل "السواء" يعني :
الوصول إلى الصورة المثالية للإنسان ، والتي لم تتحقق إلا في الأنبياء الكرام؟
أم أن السواء هو : أن يشبه الإنسان السواد الأعظم من الناس - وهو المعيار الإحصائي الذي يعتمد على : مشابهة الإنسان للمتوسط العام في مجتمعه - .
ولكن .. ماذا لو كان المجتمع في ذاته مريضاً : مثلاً : سيدنا لوط عليه السلام العفيف الشريف ، وسط قومه الذين قالوا " أخرجوا آل لوط من قريتكم ؛ إنهم أناس يتطهرون".
أم أن هناك شروطاً محددة للسواء ؟
افترض بعض الباحثين - فرويد - أن السواء هو : القدرة على الحب والعمل .
وافترض البعض أن سمات الشخصية السوية هي :
القدرة على التعاون مع الآخرين .
تحمل المسئولية وتقديرها .
القدرة على التحكم في الذات .
القدرة على الحب والثقة المتبادلة .
النضج الانفعالي .
القدرة على مواجهة الأزمات العادية .
القدرة على العمل والإنتاج بما يتناسب مع الإمكانات .
الشعور بالرضا والطمأنينة .
القدرة على إنشاء علاقات إنسانية متوازنة مع الآخرين : عدم الاعتماد عليهم، وعدم النفور منهم.

ما هو المرض النفسي :

إذا كان " السواء " منضبطاً بمعايير محددة ، فإن " الاضطراب " يمثل اختلالاً في أحد هذه المعايير.
وتتعدد تعريفات المرض النفسي تبعاً للمدرسة التي تعرفه ، ولكن ، يمكن القول بأن المرض النفسي هو: اضطراب وظيفي يصيب الإنسان نتيجة استعداد مهيئ، وظروف مثيرة ، وتؤدي به إلى الألم واختلال التكيف مع محيطه.
وفي التشخيص نركز على : نوعية الأعراض ، شدة الأعراض ، مدة بقاء الأعراض.
ويمكن تقسيم الاضطرابات النفسية إلى قسمين رئيسين :

العصاب :

قد لا تختلف أعراض العصاب عما يعرض للأسوياء من قلق أو مخاوف ، ولكن الأمر يصل مع العصابي إلى حد التعطيل عن مناشط حياته ، وسوء تكيفه ، رغم أنه لا يفقد استبصاره بنفسه ، ولا قدرته على التحكم ، ولا يؤثر على عقله . وتنقص من تكيفه مع الحياة المحيطة به.
وتشمل الاضطرابات العصابية : المخاوف ، والهلع ، والوسواس القهري ، والاضطرابات التحولية والانشقاقية.
ويكون علاج اضطرابات العصاب في الغالب في العيادات الخارجية.

الذهان :

يفقد المريض فيه استبصاره بمرضه ، ويؤثر على الجانب المعرفي لديه ، وتظهر أعراض كـ : الهلاوس - السمعية أو البصرية أو الشمية .. - ، الضلالات ، السلوك العدواني.
وأهم أشكاله : الفصام - بصوره المختلفة - الاكتئاب الذهاني.

ملاحظات :

المرض النفسي يصيب المسلم والكافر ، البر والفاجر . وليس علامة على نقص الإيمان . سواء كان اضطراباً عصابياً أو ذهانياً.
كثيراً ما يظن الناس أن الذكي لا يصيبه المرض النفسي . وهم هنا يخلطون بين " القدرات " والاضطرابات. والأكثر ذكاء والأقل ذكاء يمكن أن يصابا باضطرابات نفسية سواء كانت عصابية أو ذهانية.

كيف يشخص الطبيب حالة المريض :

يعتمد الطبيب في تشخيصه على خبرته العيادية ، وهو يراجع حالة المريض تبعاً لمحكات ومعايير الاضطرابات النفسية ، سواء كانت معايير الـ DSM الصادر من رابطة الأطباء النفسيين الأمريكية أو الـ LCD الصادر من منظمة الصحة العالمية .
قد يحتاج الطبيب إلى التأكد من أن الأعراض التي يعاني منها المريض ليست ناشئة عن أمراض عضوية ، فيحيله إلى طبيب عضوي في القسم الذي يشك فيه .
يمكن أن يحتاج الطبيب إلى عدد من الاختبارات النفسية التشخيصية ( للقدرات ، أو الشخصية ، أو الاضطرابات ) فيحيله إلى الأخصائي النفسي.

تصنيف الاضطرابات تبعاً لـ DSM :

اضطرابات تشخص عادة في فترة الطفولة مثل : التوحد ، فرط الحركة ..
الخرف وغيره من الاضطرابات المعرفية .
الأمراض النفسية الناتجة عن الحالة الطبية العامة .
الأمراض النفسية الناتجة عن التعاطي .
الفصام والأمراض الذهانية .
اضطرابات المزاج .
اضطرابات القلق .
الاضطرابات النفسجسمية .
الاضطرابات الانشقاقية .
الاضطرابات الجنسية .
اضطرابات الأكل .
اضطرابات النوم .
اضطرابات التحكم .
اضطرابات التكيف .
اضطرابات الشخصية .

ومن الضروري التركيز على هذه القواعد في التشخيص :

1- هناك معايير علمية لتشخيص المرض ناتجة عن الأبحاث المحكمة المتراكمة ، وينبغي للمعالج مراعاتها في الحكم على حالة المريض .
2- ليس هناك حالة نقية كما هو موجود في الكتب العلمية .
3- يمكن أن يعاني المريض من أعراض اضطرابات مختلفة ، وهنا ينبغي للمعالج معرفة الاضطراب الرئيسي والاضطرابات الثانوية .
4- لابد من مراعاة تفرد الشخصية لكل حالة .
5- لابد من مراعاة الخصوصية الثقافية لكل دولة ، وأثر ذلك في التشخيص الطبي.

انتشار الأمراض النفسية :

يصاب بالمرض النفسي حوالي 20% من البالغين .
تدل الإحصائيات على أن 4 من 10 من أسباب العجز يرجع إلى المرض النفسي .
تبعاً لتقرير صدر في أمريكا سنة 2003م فإن الأمراض النفسية الرئيسية - المتضمنة : الاكتئاب ، الاكتئاب ثنائي القطب ، الفصام ، الوسواس القهري - هي الأكثر شيوعاً كسبب للعجز disability مقارنةً بالأمراض الأخرى - مثل السرطان وأمراض القلب -
وفي تقرير آخر صادر عن National Alliance for the Mentally Ill NAMI يعاني 26.2% من راشدي شمال أمريكا من اضطرابات نفسية . ويمكن أن تصل معاناة نصفهم تقريباً إلى تعطيل نشاطاتهم اليومية .
كما أن 9- 13% من الأطفال تحت سن الثامنة عشرة يعانون من اضطرابات انفعالية تحدث ضعفاً وظيفياً حقيقياً ، ونسبة 5 - 9% يمكن أن يعانوا من اضطرابات انفعالية حادة تسبب ضعفاً وظيفياً.

أسباب الأمراض النفسية :

لكل اضطراب أسباب خاصة به ، وهناك آلاف الدراسات التي تسعى إلى تحديد سبب كل اضطراب على حدة ، ولكن ؛ بصورة عامة : يكون الاضطراب النفسي نتيجة :
الاستعداد البيولوجي - الوراثة ، الكيمياء - ، والظروف البيئية - التنشئة الأسرية ، جماعات الرفاق ، ظروف الحياة -.

من الذي يتعامل مع المريض النفسي :

الطبيب النفسي :

تخرج من كلية الطب ، ثم تخصص في الطب النفسي ، فإذا حصل على الماجستير سمي " أخصائي طب نفسي " ، وإذا حصل على الدكتوراه سمي " استشاري طب نفسي " . وهو الوحيد المخول له صرف العلاج الدوائي النفسي . وهو قائد العملية العلاجية .

الأخصائي النفسي :

متخرج من قسم علم النفس في كلية الآداب أو التربية ، ثم تخصص في الماجستير في علم النفس العيادي ، فأصبح " أخصائي نفسي عيادي " ، فإذا نال الدكتوراه في نفس التخصص كان " استشاري نفسي عيادي " .
وهو الذي يجري المقاييس النفسية المساعدة في التشخيص ، ويقدم جلسات العلاج النفسي.
ويمكن أن يتخصص في مدرسة علاجية معينة فيصبح مثلاً " محلل نفسي " أو " معالج سلوكي معرفي " .. الخ .
ولا يحق له وصف العلاج الدوائي.

أساليب العلاج :

هناك أمراض يكفي للعلاج منها مراجعة العيادات الخارجية ولا تحتاج إلى العيش داخل المستشفى ، وهي غالب اضطرابات القلق ، والاكتئاب غير الذهاني .
أمراض في حاجة إلى المعيشة في المستشفى لفترة ، وهي في الغالب : الأمراض الذهانية .

العلاج الدوائي :

تطور العلاج الدوائي حتى وصل إلى مرحلة أصبح فيها قادراً - بفضل الله تعالى - على علاج بعض الاضطرابات - في الصورة المثلى - أو ضبط أعراضها - على المستوى الأدنى -.
وهناك بعض الشبهات الشائعة عن الدواء النفسي :

الدواء النفسي مسكن فقط :

الأدوية النفسية ليست مسكنات ، وهناك لبس يقع بسبب المقارنة بين الأدوية النفسية وأدوية السعال والإسهال !! لأنها تقضي على المرض في فترة قليلة ، بينما يأخذ الدوء النفسي وقتاً أطول ، فيظن المريض أنه لن يعالج من مرضه .. أو أن الدواء ليس أكثر من مسكن .
ويمكن قول إن العلاج النفسي أفضل حالاً من العلاج في كل تخصصات الطب الباطني باستثناء ما ينتج عن العدوى والفطريات التي يستخدم في علاجها المضادات الحيوية ومضادات الفطريات .
أما مرضى : الضغط ، والقلب ، والكبد ، والسكر ، والكلى ، والروماتيزم ، فتحتاج في الغالب إلى علاج يدوم طوال العمر . بينما في كثير من الحالات الذهانية يحتاج المريض إلى علاج لعدة أشهر فقط .

الشبهة الثانية : أن الدواء النفسي يسبب الإدمان :

وسبب هذه الشبهة : التدرج في رفع الجرعة ، ثم ضرورة التدرج في خفضها في نهاية العلاج ، وما يجده المريض من ألم حين يكف عن العلاج فجأة . وهي طبيعة العلاج الدوائي النفسي ، ولا علاقة له بالإدمان .
كما أن بعض الأدوية التي كانت تستخدم في الخمسينيات من القرن الماضي كانت تؤدي إلى التعود مثل Phenobarbitone و Bromide ، ولكن الأطباء النفسيين توقفوا عن وصفها منذ عشرات السنين بعد أن اكتشفت أدوية أكبر أثراً في العلاج وتخلو من التعود .

الشبهة الثالثة : كيف يعالج شيء مادي - هو الدواء - اضطرابات نفسية :

يتكون المخ البشَرِي من مليارات الخلايا العصبيةِ وهناكَ مراكِـزُ في المخِّ لكافةِ الوظائِفِ النفسيةِ والبيولوجيةِ : مركزُ الحركة ، ومراكزُ للتحكم في ضغط الدم ، ودقَّـاتِ القلبِ والتنفس ، ومراكزُ للذاكرَةِ والسلوكِ والمِزاجِ والوِجْـدان وَيرتبطُ المخ بالحبل الشوكيِّ الذي يقعُ داخلَ العمودِ الفَقَـرِيِّ وهو يحتوي على عدد ضخمٍ من الخلايا العصبية وبذلك يتمكنُ من نقلِ كل أنواعِ المعلوماتِ منْ وإلى المخ من خلال الإشاراتِ العصبية، وتتصل الخلايا العصبية التي يتكون منها الجهاز العصبي بعضها ببعضٍ بواسطةِ مشابكَ " نقط الاشتباكِ العصبي" حيثُ يقَعُ كلُّ مشبكٍ بينَ الخليَّـةِ المُرْسِلَـةِ والخلية المستقبِـلَـةِ للإشارَةِ العصبية؛ وهذه المشابكُ تربطُ ما بينهما كيميائيًـا بواسِطَـةِ مواد كيميائية تُسَمَّى الناقلاتِ العصبية"ومن أمثلتها السيروتونين، الدوبامين، الأدرينالين؛ النور أدرينالين والأستيل كولين .. إلـخ . وَزيادة أو نقص هذه الناقلات العصبية في المخ يؤدي إلى اضطراب الوظائفِ النفسية للإنسان في حين أنَّ إعادَةَ ضبط تركيزها و إيجاد التوازنِ المناسب فيما بينها يعيد الإنسان إلى اتزانه في سلوكه و سعادته في حياته.

العلاج النفسي:

هناك العديد من المدارس العلاجية ، مثل : التحليل النفسي ، العلاج السلوكي ، العلاج السلوكي المعرفي ، تحليل التعامل ، العلاج الجشطلتي .. الخ.
ولكل مدرسة من هذه المدارس طريقة في تصنيف الأمراض ، وتقنيات خاصة في علاجها.
ولعل المدرسة العلاجية الأكثر شيوعاً هي مدرسة " العلاج المعرفي السلوكي " ، وقاعدتها الرئيسية أن الاضطرابات النفسية العصابية - القلق ، الاكتئاب - ناتجة عن أفكار غير عقلانية ، وعمل المعالج النفسي مساعدة المريض في الوعي بهذه الأفكار وتصحيحها .

العلاج النفسي ضروري في علاج الاضطرابات العصابية ، وقد أثبتت الدراسات العلمية المحكمة أن اجتماع العلاج الدوائي مع العلاج النفسي هو الصورة المثلى للعلاج ، والأكثر أثراً . ولا يقل أثر العلاج النفسي في علاج بعض الاضطرابات عن العلاج الدوائي .
كثيراً ما يعجب المريض من أن يكون العلاج بالكلام .. لأنه معتاد على أن يكون العلاج دواء. وفهم طبيعة المرض النفسي وحالة المريض ترد على هذه الشبهة ، إذ يحتاج المريض إلى الوجود في حضرة من يتفهمه ، ويتعاطف معه ، ثم يسعى إلى تتبع أصول مشكلته ، وإرشاده إلى الأفكار غير العقلانية التي أنتجتها ، ومساعدته في تغيير البينة المعرفية والانفعالية التي سببت المرض إلى بنية أكثر سواء .

العلاج الاجتماعي :

تغيير البيئة التي ساعدت في إثارة المرض ، لتكون بيئة مساعدة للعلاج منه. وذلك بتعليم الأسرة طبيبعة المرض ، وإرشادها إلى السبيل السليمة في التعامل مع المريض.

المرض النفسي والسحر والعين والجن :

يشيع لدى البعض مقولة : إن الأطباء والمعالجين النفسيين لا يؤمنون بوجود الجن والسحر والعين لأنهم يرون أن ما يعاني منه المريض هو اضطراب نفسي .. والأمر يحتاج إلى تفصيل لتحرير المسألة تحريراً علمياً.
القضية شائكة وتحتاج إلى اجتماع علماء الشريعة وأطباء ومعالجو النفس المسلمين لتحرير الأمر تحريراً علمياً لا يدع مجالاً للتناول السطحي العامي.
الطبيب النفسي المسلم ملتزم بأصول دينه ، وثوابت شريعته ، وهو يؤمن بوجود الجن والسحر والعين ، الثابتة في نصوص الوحي الإلهي.
الخلاف ليس في إثبات وجود الجن ، ولكن في علاقتهم بالأمراض النفسية.
لا خلاف على أثر الشيطان في الإنسان - سواء كان سوياً أو مريضاً - بالوسوسة ، ومحاربته له ، وتنغيصه عليه ، وهذا هو الصراع الأزلي بين أبناء آدم عليه السلام والشياطين.
الأمراض النفسية مثل الأمراض العضوية ذات أسباب محددة، وعلاج محدد.
الرقية الشرعية ثابتة شرعاً في علاج كل الأمراض والمصاعب والمشاق البدنية والنفسية ، مع الأخذ بأسباب العلاج التي شرعها الله تعالى لخلقه . ولذا فينبغي للمريض الإقبال على ذكر الله تعالى والتعلق به ، مع تناول العلاج الذي شرعه

 

 

 

د. محمد محمد فريد

سجل دخول أو إنشئ حساب جديد الأن لإضافة تعليق.