قراءة في طبيعة السلوك السوي والسلوك المرضي
الظاهرة النفسية، الشخصية الإنسانية ذلك العالم الذي لم يكتشف بعد، والسبب في ذلك يرجع لفيض القدرات، والقوى النفسية التي وهبها الله للإنسان . وقد عُني علماء الطب النفسي، وعلم النفس، والعلاج النفسي بدراسة هذه الظاهرة متعددة الأبعاد (...) من حيث البحث في طبيعة السلوك الطبيعي والسلوك المرضي، ومن حيث معرفة المجتمع بطبيعة هذه العلوم، والدور الذي تلعبها في فهم، وتفسير السلوك الإنساني، الظاهرة النفسية في حالتي السواء والمرض ومن ثم علاج السلوك المضطرب، وطرائق الوقاية من حدوثه،
ويرجع تعقيد دراسة الظاهرة النفسية إلى عدد من العوامل منها:
1. إشكالية تحديد ما هو السلوك الطبيعي، السوي، من السلوك المرضي.
2. حداثة علوم النفس (الطب النفسي في مفهومه المعاصر، وكذلك علم النفس، والعلاج النفسي ) مقارنة بالعلوم الأخرى.
3. التركيز الذي أولته هذه العلوم في مسيرة تطورها على الجانب المرضي من السلوك الإنساني والإهمال النسبي لدراسة وفهم السلوك الطبيعي السوي الايجابي.
والهدف من هذا المقال:
1. نشر الثقافة العلمية ومفاهيم علوم النفس بين كل أبناء الجميع.
2. أن يعرف المجتمع طبيعة هذا العلم (الطب النفسي، وعلم النفس والعلاج النفسي) الذي يٌعنى بدراسة الإنسان.
3. أن يعرف الناس ما توصل إليه العلم عن طبيعة السلوك الطبيعي السوي والسلوك المرضي.
4. أن يغير الناس نظرتهم عن طبيعة المرض النفسي ومن ثم المريض النفسي (...) فلا نخجل إن مرضنا أو مرض احد أقاربنا (...) فما يجب أن نخجل منه حقا هو ما أقترفناه من ذنب عن عمد، أما الوقوع في المرض النفسي أو العضوي فليس ذنبا أو اختيارا.
فما هو السلوك الطبيعي، السوي، ومن هو الشخص الطبيعي؟؟
إذا عُرٍف الشخص الطبيعي السوي على انه غير المريض نفسيا أو عقليا فان هذا التعريف التبادلي يجعلنا أكثر بعدا من وضع حد بين خصائص الفرد الطبيعي أو السوي من جانب وخصائص الشخص غير الطبيعي (المريض) من جانب آخر. فمنظمة الصحة العالمية تُعرّفُ الصحة على أنها ليست الخلو من المرض بل هي حالة السلامة الجسدية، والنفسية، والعقلية، والاجتماعية (...). من هذا المنطلق يكون تحديد وتعريف السلوك الطبيعي ليس بالأمر السهل، بل لعله من السهل أن نقرر منه الشخص المريض بيننا من أن نقرر منه السليم أو الطبيعي نفسيا أو عقليا.
وتكمن صعوبة تحديد ما هو طبيعي ومَنْ هو الشخص الطبيعي السوي في طبيعة الإنسان نفسه، فهو كائن متطور عبر الزمن الذي سبقه والزمن الذي يعيشه، وهو كائن متطور متفاعل مع محيطه (...)، وبذلك يكون من الصعوبة بمكان إيجاد قياس ثابت جامع مانع شامل لما هو طبيعي أو سوي والأمر ذاته يسري على طبيعة المرض النفسي أو العقلي (...).
وعلى الرغم من ذلك يتفق علماء النفس، والطب النفسي على أن الشخص الطبيعي، السوي نفسيا، وعقليا هو الشخص الذي تتمثل في شخصيته الخصائص التالية:
1. من الناحية المعرفية: القدرة على الحكم والاختيار أي بلوغ الحكمة المتمثلة في تحقيق التوازن بين مصالح الشخص ومصالح الآخر (...) وفقا لمعايير يتم الاتفاق عليها بين أبناء الثقافة الواحدة أو حتى بين الثقافات المتعددة.
2. من الناحية الانفعالية العاطفية: أن يكون لدى الشخص القدر القليل من الانفعالات السلبية (غضب، تعصب، خوف، قلق، اكتئاب(...) ليس هذا فحسب بل أن يكون قادرا على التفاعل الاجتماعي المستمر والمستقر، والقدرة على حب نفسه، وان يحب أحدا آخر(...).
3. من الناحية السلوكية: أن يكون لدى الشخص السوي القدرة على البت في الأمور واتخاذ القرار، وان يكون لديه طاقة ورغبة في العمل، وأن لا ينتقل من عمل لآخر دون مبرر، وان يبني علاقات اجتماعية دافئة، ويبني حياة زوجية مستقرة، وان يتقهم حاجات الآخرين.
4. من الناحية العضوية الجسدية: خلو الشخص من الأمراض الجسدية، والنفسية التي لا ترجع لأسباب عضوية المنشأ.
مفارقة تناقض المرض العضوي والمرض النفسي:-
الشخص الذي يعاني من مرض عضوي مثل نوبة الم معوي أو نوبة الم في الصدر يمسك على موضع الألم ويهرع، ويصيح بأعلى صوته أسعفوني أنقذوني فيؤخذ فورا إلى اقرب مستشفى أو مركز إسعاف فيضع الطبيب يده وأدواته التشخيصية على موضع المشكلة وبالتالي يحدد العلاج في لحظات (...). لكن الشخص الذي يعاني من نوبة حسد أو حقد أو كراهية أو إحباط أو عدوان أو أي فكرة مختلة، أو خوف مرضي (...) هل يحس أو يدرك أو يعي انه ليس على ما يرام ويحتاج إلى علاج؟ ربما؟! لكنه قد يكابر، وهل يعي المريض نفسيا، واجتماعيا أن مفاصل عقله قد أصيبت بالصدأ، وقصور القدرة على فهم ذاته، والعالم؟ وهل يعي المريض نفسيا واجتماعيا أن أجهزته العقلية والمعرفية، والانفعالية تحتاج إلى كحت الصدأ ونفض الغبار عنها وتشحيم مفاصل فهمه؟ بل واستبدال بعض قطع الغيار المعطوبة (الأفكار المَرضية) بأفكار إيجابية وأكثر مرونة وإنتاجية.
الجميل في المرض النفسي انه لا يحتاج إلى غرف عمليات ومراكز إسعاف مجهزة بأحدث الأجهزة (...). لكنه على الرغم من ذلك مرض خطير وخطورته تكمن في إمكانية تحول المرض الفردي إلى مرض اجتماعي وثقافي مثل مرض الرشوة، والعنف، والقمار، والابتزاز، وقهر الآخرين، وغطرسة القوة، والاحتكام إلى حق القوة وليس إلى قوة الحق (...). من هنا تكمن صعوبة تشخيص المرض النفسي، والاجتماعي نظرا لتعدد، وتعقد حلقات تطوره وتبدياته في طيف واسع من الأنماط الفكرية، والسلوكية، والثقافية، والاجتماعية، والعلامات، والأعراض، والاضطرابات.
حلقات المرض النفسي:-بين الله تعالى للبشرية في القرآن الكريم الحياة النفسية في سلم راسي تصاعدي يتكون من ثلاث حلقات في قمته الصفاء الروحي وفي أوسطه ممارسة النقد الذاتي، وفي أسلفه الغرق في مستنقع المرض الاجتماعي، الثقافي، والنفسي.
ففي أسفل السلم تتموضع النفس الأمارة بالسوء (...) والانزلاق للدرك الأسفل وهنا لا يحتاج الشخص إلا إلى النذر اليسير من الطاقة كي ينزلق.
وصعودا نحو العُلى في اتجاه النفس اللوامة، النفس القادرة على ممارسة النقد الذاتي، وتقبل نقد الآخر ونصحه. ولنا في خلفية رسول الله الفاروق أسوة حسنة في اختراع منهج النقد الذاتي، ونقد الآخر، تبدى ذلك في قوله: "إذا رأيتم في سلوكي، حكمي اعوجاجا فقوموني (...)" فرد عليه ذلك الإعرابي (...) بقوله: "والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا". فالنفس اللوامة دوما تراجع الحسابات أولا بأول دون تكبر، أو مكابرة، دون غرور، دون تأخير أو تأجيل أو تسويف.
ثم صعودا روحيا عبر وبالنفس المطمئنة الراضية المرضية، ولا ننسى أن الصعود نحو العُلى يتطلب طاقة كبيرة، ومجاهده للنفس، وكد، وتعب، وصبر.
وفي السياق ذاته حدد علماء النفس ثلاث حلقات للحياة النفسية هي السواء - في معناه النسبي- أو الطبيعي " Normal". والعصاب "Neurosis" أي الأمراض النفسية. والذهان "Psychosis" أي الأمراض العقلية.
التأرجح بين السواء والعصاب والذهان:-
ما من شك انه لا يوجد إنسان على ظهر البسيطة إلا ومر بحالة من الغضب أو التعصب، أو الكراهية أو الحسد أو الحقد، أو العدائية أو العنف أو الإحباط أو الخوف أو الحزن أو الهلع (...) لكن هذه الحالة سرعان ما تزول ويجب أن تزول ليعود الإنسان لوضعه الطبيعي، السوي. وفي حالة تكرار هذه الحالة يتأرجح ويسبح الشخص بين السواء والعصاب فهذا شخص يغسل يداه مرات ومرات خوفا من الإصابة بالمرض، ويتأكد من انه أغلق الباب مرات ومرات، وذلك شخص متوتر طوال الوقت، يداه ترتعشان، وتعرقان، ونبضات قلبه تتسارع، وآخر لم يعد قادر على اتخاذ القرار، فاقد القدرة على التركيز، نومه وشهيته للطعام مضطربة، لم يعد يشعر بالسرور في حياته العامة والخاصة (...). وها هم شخوص يخرق كل واحد منهم قوانين السماء، والأرض، يظلم الناس، كل شيء حللاَُ له، وتعريف الحرام في قاموسه هو ذلك الشيء الذي لا يستطيع الوصول إليه، انه ذلك الشخص الذي يعيش بيننا، وقد يتبوأ مكانا متقدما في المجتمع، يعقد الصفقات، والاتفاقيات، يملك القدرة على الإقناع، يعمل أي شيء يساعده على تجاوز القانون، هو فوق القانون، يلبس قناع براق، يتمتع بالذكاء، يلهث خلف إشباع رغباته النهمة بأي أسلوب، يبني سعادته على حساب تعاسة الآخرين، انه الشخص المضاد للمجتمع "Anti-Social Person"
إن ازدياد قيم، وجرعة التعصب، والعنف، والخوف، والقلق، والحزن، والكآبة لدى الشخص فانه ينحدر نحو (الذهان) الاسم المخفف، الملطف (للجنون)، حينها ينزلق الشخص إلى غيابة جب المرض العقلي، حيث يكون الانفصال عن الواقع، وتكون محاولة إعادة الشخص إلى حالة صحية سابقة للمرض أكثر مشقة لكنها ليست مستحيلة بإذن الله.
في طريق العلاج النفسي:-
حيث أن المرض النفسي هو اضطراب في الفكر وفي الانفعال، في الجسد، وفي السلوك، وفي العلاقة بالآخر (...) إذا فالعلاج النفسي لابد أن يكون متعدد الجوانب:
فيه العلاج المادي الطبي:
والذي يرتكز على العقاقير النفسية، والجلسات الكهربائية، والجراحة النفسية، وهو نتاج بحوث وجهود مستمرة للبحث في طبيعة كيمياء المخ، والجسد، وهو مهم في المستويات الشديدة أو حتى المستويات المتوسطة من المرض النفسي أو العقلي.
وفيه العلاج النفسي:
والذي يركز على العلاج بالمعرفة، بالكلمة، والإنسان هو الكلمة، فالكلمة، واللغة هي التي تشكل الفكر، والوجدان والسلوك، والعلاقات الإنسانية وهو - العلاج النفسي - رحلة استكشاف في عقل، ووجدان المريض النفسي، فيه يتعلم المريض كيف يفند ويغربل أفكاره المضطربة، ويضبط مشاعره، ورغباته الهائجة، يتعلم كيف يكلم عضلاته المتوترة، ويسير بها نحو الاتزان والاسترخاء.
وفيه العلاج الاجتماعي:
وذلك من خلال مساندة المريض النفسي على العودة لحياته الاجتماعية الطبيعية، وعبر التكافل الاجتماعي، والأسري، وإعادة التأهيل النفسي، والاجتماعي، والمهني.
والى لقاء بعون الله
د . محمد عقلان