السعي وراء السعادة
تُعتبر السعادة حقلا معرفيا لم يسبر علماء الاجتماع غوره مقارنة بالبؤس. ففي المقالات التي تم فهرستها في مستخلصات بحوث علم النفس Psychological Abstracts بين عامي 1967 و1994، جاء ذكر الاكتئاب في 380 46 مقالة؛ كما ورد الحديث عن القلق في 851 36 مقالة وعن الغضب في 5099 مقالة. ولم تأت على ذكر السعادة إلا 2389 مقالة فقط، وتحدثت عن الرضا بالحياة 2340 مقالة، ولم يرد ذكر الابتهاج إلا في 405 مقالات فحسب.
ومنذ عهد قريب بدأنا وباحثون آخرون بدراسةٍ منهجية للسعادة. وكان عشرات الباحثين قد توجَّهوا في العقدين الماضيين إلى مئات الآلاف من الأشخاص كعينات، يسألونهم إن كانوا سعداء أو راضين بحياتهم، أي ما يدعوه علماء النفس «حسن الحالة الشخصية» subjective well-being. كما قام مركز بحوث استطلاع الآراء القومي في جامعة شيكاگو بالولايات المتحدة بفحص عينات تضم نحو 1500 شخص سنويا منذ عام 1957، في حين أجرى معهد الأبحاث الاجتماعية في جامعة ميتشيگان دراسات مشابهة ولكن بشكل أقل انتظاما، تماما كما فعلت منظمة گالوب. إضافة إلى ذلك بُذلت جهود، بتمويل حكومي، لاستطلاع أمزجة مواطني الدول الأوروبية.
لقد اكتشفنا بعض الحقائق المفاجئة. فالناس أكثر سعادة مما قد يتوقعه المرء؛ كما يبدو أن السعادة لا تعتمد اعتمادا كبيرا على الظروف الخارجية. ومع أن النظر إلى الحياة على أنها مأساة أمر له تاريخه الطويل الجدير بالتقدير، فإن استجابات أفراد عينات عشوائية random samples في أنحاء العالم حول شعورهم بالسعادة ترسم صورة أكثر إشراقا مما كان يُظَن.
ففي الاستطلاعات التي أُجريت في جامعة شيكاگو مثلا يقول ثلاثة من بين كل عشرة أمريكيين إنهم سعداء جدا. ويختار واحد فقط من كل عشرةٍ أكثر الأوصاف سلبية، إذ يقول «إنني لست سعيدًا جدا». ويصف الأغلبية أنفسهم بالقول «إنني سعيد إلى حد ما.» (إن الاستثناءات القليلة للشعور بالسعادة المعقولة ـ الواردة في التقارير العالمية ـ تضم المدمنين على الكحول الذين يُعالَجون في المستشفيات، والنزلاء الجدد في المصحات والسجون ومآوي العجزة، والمرضى الجدد لدى الأطباء النفسانيين، وسود جنوب أفريقيا إبان ممارسةِ سياسةِ الفصل العنصري، والطلبة الذين يعيشون في ظروف من الضيق الاقتصادي والاضطهاد السياسي.)
ولكن كيف يمكن لعلماء الاجتماع قياس شيء يصعب تحديده كالسعادة؟ إن معظم الباحثين يقتصرون على مجرد طرح أسئلة على الناس يطلبون فيها إليهم وصف مشاعرهم بالسعادة أو التعاسة كي يقيسوا من إجاباتهم مقدار رضاهم عن حياتهم. وممّا يلاحظ أن إقرار المرء بأنه سعيد يبقى ثابتا إلى حد ما على امتداد سنواتِ إعادةِ الاختبار. وفضلا عن ذلك، فإن الذين يقولون إنهم سعداء وراضون يبدون سعداء في عيون أصدقائهم الحميمين وأعضاء أسرهم والاختصاصي النفسي الذي يُجري معهم المقابلة. وتُظهر تقديرات أمزجتهم اليومية مزيدا من الانفعالات الإيجابية، كما تُظهر أنهم أكثر ابتساما من أولئك الذين يصفون أنفسهم بأنهم غير سعداء. ويقترن إقرار المرء بأنه سعيد بمؤشرات أخرى تنم عن شعوره بحسن الحال. ذلك أن الأشخاص السعداء هم أقل أنانية وأقل عدوانية وأقل تعسفا وأقل عرضة للأمراض، إذا ما قورنوا بالمكتئبين.
وتَبيَّن لنا أن التوزيع المتماثل even distribution للسعادة أمر ينطبق إلى حد كبير على التصنيفات السكانية كلها سواء أكانت حسب العمر أم الطبقة الاقتصادية أم السلالة العرقية أم المستوى التعليمي. إضافة إلى ذلك، فإن معظم الاستراتيجيات البحثية الرامية إلى تقدير حسن الحالة الشخصية تعطي نتائج مماثلة ـ بما فيها تلك الاستراتيجيات القائمة على أخذ عينات لخبرات الناس عن طريق استفتائهم في أوقات عشوائية.
استقصاء السعادة:
يستخدم الباحثون طرقا متنوعة لدراسة إحساس الناس الذاتي بالسعادة. ويتبع بعضهم أسلوب الصور في حين يعتمد غيرهم على الكلمات ، ولكن الأسئلة كلها تنصب بالضرورة على سؤال الناس عن مشاعرهم تجاه حياتهم. وتتشابه نتائج الطرائق المختلفة إلى درجة كبيرة. لقد قمنا بتجميع المعلومات من نحو 1000 استبيان شمل 1.1 مليون فرد بغية الوصول إلى تقدير شامل لحسن الحال الشخصية الذي صُرِّح عنه (في الأسفل).
أي من هذه الوجوه (صور) يمثل شعورك تجاه حياتك بشكل عام؟
«حياتي في معظم جوانبها قريبة من مَثَلي الأعلى.»
«ظروف حياتي ممتازة.»
«إنني راضٍ بحياتي.»
«لقد حصلت حتى الآن على الأشياء المهمة
التي أريدها في الحياة.»
«لو كان لي أن أعيش حياتي مرة ثانية
فإلى حد ما لن أغير فيها شيئا.»
هل تعارض بشدة، أم تعارض قليلا، أم لا توافق ولا تعارض،
أم توافق قليلا، أم توافق، أم توافق بشدة؟
وتكشفُ المقابلاتُ التي أُجريت مع عينات من جميع الأعمار، عن أنه ليس هناك ـ على سبيل المثال ـ سن معينة يكون فيها المرء أكثر سعادة أو أكثر تعاسة. كما تُظهر حصيلة 146 دراسة أجراها باحثون من جامعة ولاية أريزونا أن من المرجح أن يتساوى الرجال والنساء في الإعراب عن كونهم «سعداء جدا» و«راضين بحياتهم». وقد أيد هذه النتائج كل من (من جامعة كولومبيا البريطانية الشمالية) و (من جامعة ميتشيگان)، وذلك في تلخيص لدراسات أكثر حداثة أُجريت على 000 18 طالب جامعي من 39 بلدا و 000 170شخص بالغ من 16 بلدا.
ولا تقدم معرفة السلالة العرقية للفرد إلا دليلا ضعيفا عن حسن الحالة الشخصية. فالأمريكيون المتحدرون من أصل إفريقي لا يقِلّون شعورا بالسعادة الغامرة ـ إلا على نحو طفيف ـ عن الأمريكيين المتحدرين من أصل أوروبي. وتوصَّل المعهد القومي للصحة العقلية إلى أن معدلات الاكتئاب والكحولية (إدمان الكحول) متساوية تقريبا بين السود والبيض. وتؤكد الاختصاصيتان بعلم النفس الاجتماعي (من جامعة ميتشيگان) و (من جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا) أن الأفراد في المجموعات السكانية المحرومة يحققون حاجتهم إلى احترام الذات عن طريق إسناد قيمة كبيرة للأمور التي يتفوَّقون فيها، وعقدِ مقارناتٍ ضمن مجموعاتهم الخاصة، ووضع اللوم في المشكلات التي تصادفهم على مصادر خارجية كالتحيز مثلا.
ما لا يستطيع المال شراءه:
إن الثروة هي أيضا عامل تنبؤ ضعيف بالسعادة. فالناس لم يصبحوا أكثر سعادة مع مرور الزمن الذي ازدادت فيه حضاراتهم وفرة وغنى. ومع أن الأمريكيين يكسبون اليوم بعملتهم الحالية ضعفي ما كانوا يكسبونه عام 1957، فإن نسبة الذين يقولون أمام الباحثين (من مركز بحوث استطلاع الآراء القومي) إنهم «سعداء جدا» قد هبطت من 35 في المئة إلى 29 في المئة.
وحتى الأغنياء جدا بين أغنى 100 أمريكي من الذين استعرضتهم مجلة Forbes، لم يكونوا أكثر سعادة من الأمريكي المتوسط الدخل إلا بدرجة ضئيلة فحسب. ولم يكن الذين ارتفع دخلهم على مدى 10 سنوات بأسعد من أولئك الذين بقي دخلهم ثابتا. وفي الواقع، إن الارتباط بين الدخل والسعادة أمر تافه لدى معظم البلدان باستثناء تلك البلدان الأشد فقرا مثل بنگلادش والهند، حيث يُعدُّ الدخل مقياسا جيدا لحسن الحال.
تُرى هل الناس في الأقطار الغنية هم على العموم أكثر سعادة من الناس في الأقطار الأقل غنى؟ يبدو أنهم كذلك بصفة إجمالية، مع أن الفارق ربما يكون ضئيلا. ففي البرتغال مثلا، ذَكَر واحد فقط من بين كل عشرة أشخاص أنه سعيد جدا، في حين أن نسبة السعداء جدا في هولندا ـ البلد الأكثر غنى ـ هي أربعة من بين كل عشرة أشخاص. ومع ذلك فإن هناك تناقضات غريبة في هذا الارتباط بين الثروة القومية وحسن الحال. فقد أعرب الإيرلنديون خلال عقد الثمانينات ـ وعلى نحو ثابت ـ عن رضاهم بحياتهم، رضا يفوق كثيرا الرضا الذي أعرب عنه الألمان (الغربيون) الأغنى منهم. وعلاوة على ذلك، هناك عوامل أخرى تُعزِّز الرضا بالحياة وتسير جنبا إلى جنب مع الثروة القومية، كالتمتع بالحقوق المدنية وانتشار القراءة والكتابة وطول فترة بقاء الحكومات الديمقراطية. ونتيجة لذلك فمن المستحيل معرفة ما إذا كانت سعادة الناس في الأقطار الغنية قائمة على المال أو أنها ناتج ثانوي لمصادر أخرى للسعادة.
عادات الناس السعداء:
ومع أن السعادة ليست أمرا يسهل التنبؤ به بالاعتماد على الظروف المادية، فإنها تبدو ثابتة بالنسبة إلى من يحظون بها. ففي إحدى الدراسات التي أجراها المعهد القومي للشيخوخة وشملت 5000 شخص بالغ الرشد تبيَّن أن الأشخاص الذين كانوا الأكثر سعادة في عام 1973 بقوا سعداء نسبيا بعد عقد من الزمن على الرغم من التغيرات التي طرأت على عملهم ومسكنهم ووضعيتهم الأسرية.
وتُظهر الدراسة تلو الأخرى أن هناك أربع صفات تميّز السعداء من الناس، أولاها ـ ولا سيما في الثقافات الغربية الفردية ـ حبُّ الناس لأنفسهم. فكل فرد في هذه الثقافات لديه تقدير عال لذاته، ويعتقد في الأغلب أنه أكثر أخلاقا وأكثر ذكاء وأقل تحيزا وأفضل قدرة على الانسجام مع الآخرين وأحسن صحة من الإنسان المتوسط. (ومثل هذه النتائج تُذكِّرُ بنكتة سيگموند فرويد عن الرجل الذي قال لزوجته: «إن لم يكن هناك بد من أن يموت أحدُنا، فأرى أن علي أن أذهب للعيش في پاريس.»)
الصفة الثانية هي شعور السعداء على نحو نموذجي، بتحكمهم في حياتهم. أما المحرومون من القدرة على التحكم في حياتهم أو الذين يملكون القليل منها ـ كالسجناء والمرضى الذين يتلقون العناية في المصحات، والمجموعات أو الأفراد الفقراء جدا، والمواطنين الرازحين تحت وطأة الأنظمة الاستبدادية ـ فمعنوياتهم أضعف وصحتهم أسوأ. والصفة الثالثة هي كون السعداء متفائلين عادة. أما الصفة الرابعة فهي كون معظم الناس السعداء انبساطيين(1) extroverts. ومع أنه من المتوقع أن يعيش الانطوائيون introverts بسعادة أكثر في صفاء حياتهم التأملية الأقل توترا، فالواقع أن الانبساطيين أسعد منهم ـ سواء أكانوا يعيشون وحدهم أم مع آخرين.
وليست الأسباب الكامنة وراء هذه الارتباطات مؤكَّدة. ونتساءل: هل السعادة هي التي تجعل الناس أكثر ودا وانبساطا، أم هل الودّيون الانبساطيون أكثر ميلا إلى أن يكونوا سعداء؛ الأمر الذي قد يعلل سبب زواجهم مبكرًا، وحصولهم على أعمال أفضل، وتكوينهم أصدقاء أكثر عددا؟ إن كانت هذه السمات الانبساطية هي حقا التي تجعل حامليها ميالين لبلوغ السعادة، فقد يغدو الناس أكثر سعادة فيما لو تصرفوا بطرق معينة. وكمثال على ذلك، تُظهِر التجارب أن الناس الذين يتظاهرون بتقديرهم الرفيع لذاتهم يعلنون أنهم يتمتعون بمشاعر أشد إيجابية حيال أنفسهم.
تبدو السعادة متساوقة في العديد من قطاعات السكان المختلفة. ويعبّر كل من الجنسين عن القدر ذاته تقريبا من الرضا بالحياة (في أعلى اليسار)، كما تفعل ذلك فئات الأعمار المختلفة (في أعلى اليمين). ومن بين الفوارق القليلة الثابتة يلاحظ الفارق بين المتزوجين والذين لم يتزوجوا قط (في أسفل اليسار)؛ وتشير بيانات أخرى إلى أن المطلقين أقل سعادة من الزمرتين السابقتين. وبقيت السعادة أمرا مستقرا نسبيا مع مرور الزمن في الولايات المتحدة، حتى بعد أن ارتفع الدخل القومي (في أسفل اليمين).
ومهما يكن السبب، فالعلاقات الشخصية الوطيدة التي تتميز بها حياة السعداء ترتبط بالصحة أيضا. وإذا ما عقدنا مقارنة بين أشخاص انعزاليين (حوشيين)(2) وأشخاص اجتماعيين لهم عدة أصدقاء حميمين لوجدنا أن الأخيرين هم أوفر صحة واحتمال وفاتهم قبل الأوان أقل. ويرى أكثر من تسعة أشخاص من كل عشرة أن الزواج هو أهم بديل للعيش وحيدا. ومع أن العلاقات الزواجية المحطّمة قد تفضي إلى قدر كبير من البؤس والتعاسة، فإن الزواج الناجح هو على ما يبدو مصدر قوي من مصادر تحمل متاعب الحياة. وفي عقدي السبعينات والثمانينات أفاد 39 في المئة من المتزوجين البالغين العاملين في مركز بحوث استطلاع الآراء القومي أنهم «سعداء جدا» مقارنة بما نِسبته 24 في المئة في صفوف أولئك الذين لم يسبق لهم الزواج إطلاقا. وفي استبيانات أخرى لم يذكر إلا 12 في المئة فقط من المطلقين والمطلقات أنهم «سعداء جدا». وقد كان الفارق في مقدار السعادة بين المتزوجين والذين لم يتزوجوا قط متماثلا بالنسبة إلى الرجال والنساء.
وقال الناشطون دينيا أيضا إنهم يتمتعون بسعادة غامرة. وقد وجدت إحدى الدراسات التي أجرتها منظمة گالوب أن نسبة السعداء جدا بين شديدي التديّن تقارب ضعفي نسبة أولئك الذين يحتمل أن يعتبروا أنفسهم سعداء جدا بين مَنْ هم أقل التزاما دينيا. وتوصلت دراسات أخرى، بما فيها دراسة شارك فيها 16 بلدا وشملت 166000 فرد إلى أن الإقرار بالسعادة والرضا بالحياة يزداد كلما اشتدت قوة الانتماء الديني وتكررت ممارسة الشعائر الدينية ممارسة جماعية. ويرى بعض الباحثين أن التدّين يؤدي بالمرء إلى زيادة دعمه لمجتمعه وزيادة إحساسه بالأمل.
إن القائمين بدراسة موضوع السعادة هم الآن بصدد الشروع بتفحص أنماط ممارسات الناس السعداء وأفكارهم وأهدافهم. ومن المحتمل أن تنجح بعض الأنماط التي قد تُكتشف خلال البحث، في تقديم أدلة حول إمكان تحويل الظروف والسلوكيات التي تعمل على نحو معاكس للهناء لتصبح مشجعة له. وفي نهاية المطاف بوسع الدراسة العلمية للسعادة أن تساعدنا على فهم نهج لبناء عالم يعزز غبطة الإنسان ويُعين الناس على أن يستمدوا من ظروف حياتهم أكبر قدر من الرضا.
__________
المؤلفان
David G. Myers - Ed Diener
يدرسان السعادة منذ ما يزيد على عشر سنوات. مايرز هو أستاذ علم النفس في كلية هوب في ميتشيگان ومؤلف كتاب «السعي وراء السعادة: من السعيد ولماذا؟» (ويليم مورو، 1992). وقد حصل على جائزة گوردون ألبورت لدراساته عن تأثير الجماعة. أما دينر فهو أستاذ علم النفس في جامعة إلينوي، ويبحث عن تعريف لحسن الحالة الشخصية ووضع مقياس له. وتتركز أعماله الحالية على الفوارق الثقافية في حسن الحالة الشخصية وعلى التكيّف مع أحداث الحياة.
المصدر: مجلة العلوم