تقنيات المرشد النفسي
* د. محمد أيوب شحيمي المرشد النفسي ليس موظفاً عادياً، ولا متخصصاً روتينياً، يقوم بممارسة علم تعلمه؛ لكنه إنسان ديناميكي، مبدع خلاق؛ يتوقف نجاحه إلى حد كبير على قوة شخصيته ومرونتها وعلى أسلوب تعامله مع عميله؛ ومن التقنيات التي يجب توفرها في شخص المرشد النفسي. طريقة السؤال: فالسؤال يلعب دوراً هاماً في عملية الإرشاد النفسي، ونوعية السؤال وطريقة طرحه متوقفة على بداهة وبراعة المرشد؛ فبعض الأسئلة تكون مبهمة أو غامضة، وبعضها يحتمل أكثر من إجابة؛ ثم إن بعضها يجب أن يؤجل إلى مرحلة لاحقة، ويجب توفر التسلسل المنطقي في طرح الأسئلة فلا نسأل مثلاً عن عدد الأولاد قبل أن نسأل عما إذا كان متزوجاً أم لا؟ ولا نسأل عن مراحل التعليم التي وصل إليها أولاده قبل أن نسأل عما إذا كان قد رزق بأولاد أم لا؟ فبعض الأسئلة التي تأتي في غير محلها تعكس شعوراً سلبياً من قبل المسترشد نحو المرشد. فالعميل يستطيع كشف ذكاء المرشد من خلال الأسئلة التي يطرحها عليه، وما إذا كانت جوهرية أم لا؟ ويشير الدكتور ماهر عمر إلى أن: (فنية التساؤل تعتبر الوسيلة الأساسية لاكتشاف المجهول فيما يختص بحالة المسترشد من جميع جوانبها). والسؤال هو الصلة أو العلاقة التي من خلالها يتصل المرشد بالمسترشد ويتصل هذا المسترشد بنفسه وبالآخرين؛ والسؤال هو الشبكة التي تربط كامل جوانب القضية التي يعتبر المسترشد ـ محورها ـ . والسؤال عن عملية الاستنفار الفكري أو الاستفزاز أو التحفيز لاتخاذ موقف يتمثل بالإجابة، والإجابة مسؤولية لا يمكن التساهل في أمرها بالنسبة للمجيب أو للسامع، (للعميل وللمرشد) ومن المخاطر التي يتعرض لها المرشد المبتدئ: أ ـ إطلاق الأسئلة بطريقة عشوائية، غير منظمة. ب ـ عدم الاستماع بطريقة جيدة للإجابة على أسئلته أو أن يشرد في موضوع آخر، دون استكمال ما كان قد ابتدأ به. ج ـ ترك الكلام بشكل كلي للمسترشد، الذي قد يتحول إلى موجه للأسئلة فتنقلب الأدوار، ويفلت الزمام من يد المرشد النفسي، حيث يتولى المسترشد نفسه إدارة الجلسة. د ـ أن تتحول الجلسة الإرشادية إلى ثرثرة خارجة عن جوهر الموضوع أو أن يحظى موضوع المقابل بأقل قسط مطلوب من الوقت، حيث يستنزف الوقت والجهد في الموضوعات الخارجة عن جوهر المقابلة الإرشادية. ويجب أخيراً لفت النظر إلى أنه ليس المرشد وحده هو الذي يسأل، فعلى المرشد أن يساعد ويحث المسترشد على الاستفسار والاستيضاح والسؤال وأن يصغي له ويجيبه بمحبة وعطف وبأسلوب واضح ودافئ، وعلى المرشد أن يتجنب الأسئلة الموحية بإجابة معينة، وتلك التي يجاب عليها بنعم أو لا، ثم عليه أن ينتقي الأسئلة اللازمة والضرورية ويبتعد عن الأسئلة الخاصة الشخصية، إلا إذا كان لها علاقة ضرورية بموضوع مشكلة المسترشد. وخلال العملية الاسترشادية تجدر الإشارة إلى ضرورة التمييز بين الصمت والإنصات، واللفظتان ليستا بمعنى واحد. فالإنصات أو الإصغاء، فن له أهميته التي لا تقل عن أهمية الكلام نفسه فالإنصات هو الإصغاء باهتمام، وتركيز النظر والسمع والذهن للمتحدث ومتابعته خطوة خطوة، لفظة لفظة، في كل موقف والاستفسار والتعليق والاستهجان، وتغيير ملامح الوجه تبعاً لموقف ولحديث المتحدث، كلها دلائل للإنصات الجيد. ومن مأثور الكلام في هذا المجال (مَن لم ينصت لحديثك فأكفه مؤونة الاستماع إليك) والمعنى في هذه الحكمة واضح، فكل منا يتعرض بين الحين والآخر لمثل هذا الموقف، حيث يتحدث ولا يجد مَن يُنصت جيداً فكيف عن الحديث. هذا في المجتمعات العامة، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالجلسة الإرشادية؟! ولا يجب أن يضع المرشد نصب عينه أن عليه أن يستغل كل دقيقة من الجلسة الاسترشادية، إذ ما أن يكف المسترشد عن الكلام حتى يأخذ به هو، فيحسن بالمرشد أن يترك مجالاً لتجميع أفكار المسترشد الذي قد يكون بحاجة لفترة من التفكير والصمت لتنظيم المعلومات واستعادتها أو تذكرها لصياغتها في قوالب لفظية.. ليدلي بها على مسمع المرشد وهذا حق من حقوقه يجب أن يعطاه. وقد يكون للصمت تفسيرات أخرى، منها ما هو محبب، ومنها ما هو عكس ذلك، فالصمت لإعطاء فرصة للتفكير والتأمل أمر ضروري، لكنه يكون أحياناً بسبب استنزاف الحديث الذي تكرر وفقدت معه قابلية الرد، أو يكون أحياناً أخرى لارتباط السؤال بحادث مؤلم لا يريد المسترشد تذكره، أو يكون نتيجة لعدم فهم السؤال المطروح من قبل المرشد. وما إلى ذلك من الأسباب على المرشد أن يكتشفها بحدسه المبدع. وهناك صمت من نوع آخر، تفرضه طبيعة الحديث، بين المقاطع، أو أثناء التوقف الطوعي لترك المجال لتعليق أو استفسار أو طلب رأي أو نيل موافقة، وهذه أساليب لا يمكن أن نضع لها شروطاً ومواصفات، فهي متروكة لحنكة وبراعة المرشد في إدارة المقابلة الإرشادية. (والصمت يعتبر وسيلة هامة وإيجابية يستخدمها المرشد النفسي، بغية الدخول في مرحلة الإقفال، عندما يريد أن يُنهي المقابلة الإرشادية، وذلك بطريقة لبقة وذكية). وأكثر الذين أكدوا على أهمية الصمت بالنسبة للمرشد النفسي ولنجاحه في عمليته الاسترشادية العالم (ايكمان) الذي اقترح على المرشدين النفسيين (أن يكون إنصاتهم لمسترشديهم بأعينهم وعقولهم وبقلوبهم وحتى بجلودهم وإن كان استماعهم إليهم بآذانهم فقط، فإن ذلك يبدو آلياً ومظهرياً فقط). ـ المقابلة الإرشادية: تعتبر المقابلة الإرشادية، جوهر ولب عملية الإرشاد النفسي وهي وسيلة الاتصال الفعالة بين المرشد والمسترشد، وهي مواجهة دينامية تتم بين اثنين (المرشد والعميل) وجهاً لوجه بغية الوصول إلى هدف معين يعود لمصلحة العميل، ومن مواصفات المقابلة: 1 ـ أنها ظاهرة إنسانية، تستلزم الحضور الشخصي ولا يمكن أن تتم بواسطة المكالمة الهاتفية أو المراسلة، فوجود المسترشد إلى جانب المرشد وفي مواجهته يعطي للمقابلة وجهاً إنسانياً، وحتى الابتسامة التي يستقبل المرشد عميله بها أو يودعه لها أثرها الفعال في نفسه، فضلاً عن العلاقات الودية التي تخلقها المقابلة، فهذه المقابلة تخلق نوعاً من الإلفة المتبادلة والشعور بالاطمئنان. 2 ـ أن تكون محددة بمكان معين، أعد خصيصاً للإرشاد النفسي فمن غير المستحب أن تتم حيثما اتفق: في محل تجاري، أو على قارعة الطريق أو مطعم، فللمكان هيبته فضلاً عن كونه مخزناً لأسرار المسترشد، يقصده حينما يشعر بالتوتر والقلق، ويترك في نفسه أثراً، وللمكان تأثيره على أمزجة الأشخاص العاديين، الأسوياء، حيث يصبح جزءاً من ذواتهم يحنون إليه حنينهم إلى الأشخاص الأعزاء على نفوسهم، فالأمكنة عُلب الذكريات وإلا لم نحنُّ إلى المدارس التي سبق أن تعلمنا بين جدرانها، وإلى البيت الذي نشأنا تحت سقفه، ذلك كله لأن البيت والمدرسة، كل منهما علبة مليئة بذكرياتنا الطفولية وأحاسيسنا، نشتاق إليها، كشوق الطيور إلى أوكارها والنحلة إلى قفيرها، ونحنُّ إلى أماكن وجود الأحبة على طريقة قول الشاعر: وما حـب الديار شغفن قلبي ولكن حب مَن سكان الديارا 3 ـ لا يجب أن تحدث المقابلة بالصدفة، وإلا فقدت قيمتها، لذلك يجب أن تحدد بموعد يتفق عليه من قبل الطرفين، ويفضل أن يكون هذا الزمان مناسباً للطرفين (المرشد والعميل) بحيث لا يشعر أي من الفريقين بأنه محرج تجاه الفريق الآخر، أو أنه في وضع لا يسمح به الإصغاء أو الكلام، وفي هذه الحالة تفقد المقابلة أيضاً الغاية التي وجدت من أجلها. 4 ـ ليس هناك مقابلة من دون هدف، وهي ليست لمجرد الثرثرة، أو التداول في أمور خارجة عن نطاق الإرشاد. بعضهم يطلب المقابلة لحل مشكلة، والبعض الآخر يطلبها للتخطيط لمستقبل تربوي، أو لإجراء اختبارات الشخصية أو تحليل الاختبارات وما إلى ذلك. ولما كان وقت المرشد على درجة من الدقة والتنظيم، فعليه أن يستطرد إلى موضوعات ليست من ضمن اهتماماته أو صلاحياته، فهناك مسترشدون كُثُر يحتاجون إلى وقته وجهده. ومن تقنيات المقابلة الإرشادية أن تكون قائمة على الثقة والمحبة والاحترام، وأبرز ما يجب أن يتوافر فيها أن يتسم المرشد فيها بالمحبة والتقبل لعميله، والإنصات له باحترام بالإضافة إلى طول النفس، وهدوء الأعصاب. أما لناحية تسجيل المقابلة كتابة، أو على أشرطة (كاسيت) فهذه المسألة ما تزال موضع جدل بين المعنيين بالإرشاد النفسي، حيث يرى فريق منهم أن هذه الطريقة تساعد العميل على الكف عن قول كل ما يريده بالاضافة إلى شك هذا العميل بأن تبقى هذه المعلومات سرية أم لا؟ حتى لو شعر العميل أن مقابلته تسجل بشكل سري، فإن الموقف في المقابلة يصبح مصطنعاً. وعندما تبدأ المقابلة يجب أن تكون واضحة وصريحة وجريئة خالية من المجاملات والاختباء وراء الألفاظ، أو استعمال التعابير المبهمة، وألا يتحرج المرشد من الخوض في أية مسألة يراها ضرورية لمسترشده؛ ثم إن تبادل الكلام والتناوب عليه، وتبادل الإصغاء أو الإنصات شروط ضرورية لنجاح المقابلة، فلو تحدث الاثنان في وقت واحد لضاعت قيمة الجلسة الاسترشادية وتشوشت الأفكار، وخرج الموضوع عن الدائرة التي رسمت له. ويسير الإرشاد هنا في خطين متوازيين: أ ـ الخط المباشر: وهو لجوء المرشد إلى القيام بعملية تعليمية تقضي بأن يطلب من العميل إعادة النظر في طريقة تنظيم شخصيته وطرق تفكيره، ووسيلة حل مشكلته، ولكن يؤخذ على هذه الطريقة أنها تحرم المسترشد من حرية الحركة ومرونة التفكير والتفاعل. أما الخط غير المباشر، فهو يقوم على التفاعل المشترك بين المرشد والعميل، وغالباً ما يكون ذلك بناء على طلب المسترشد نفسه، الذي يحاور المرشد حول حالته ومن خلال هذا التفاعل التأثيري يستطيع المرشد أن يحقق غرضه في الوصول إلى هدفه في تغيير سلوكيات المسترشد ومساعدته على إيجاد الحلول اللازمة لحالته وتحقيق استقراره النفسي.