التعاطف: فن الإحساس بالآخر
متى نستطيع أن نقول بالفعل لشخص آخر "أنا أفهمك" أو "أشعر بما تحس به" أو "أفهم ما يدور بداخلك"...عندما نكون حساسين. التعاطفEmpathy هو أكثر من مجرد المشاركة الوجدانية Sympathy -إنه القدرة على الإصغاء والتبصر بهدف التعرف على أفكار ومشاعر الآخر. وتعد هذه القدرة مولودة وليست مكتسبة ومع ذلك فإننا قليلاً ما نستخدمها.
"أشعر بخوفكم" I can feel your pain، قالها بل كلنتون بعيون مغرورقة بالدمع في حديث مع أسرة إحدى ضحيا انفجار. و في هذه الجملة، التي كان ينطق بها بصور مختلفة في مناسبات مشابهة، يعتقد المراقبون و المحللون أنهم اكتشفوا سر الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية؛ والذي يتمثل في الموهبة الخاصة بمنح الناس الشعور بأنه يفهمهم. حتى أن معارضوه السياسيون وصفوه بالجذاب المتعاطف empathically Charmer ، وبأنه منفتح على الآخر (وليس على النساء فحسب)، ويبحث عن التقارب الجسدي و ينظر بعمق في عينيه، ويشد على يديه بحرارة و يبث له: أنا مصغ لك بالفعل، أنا مهتم بمشكلتك! ويبدو أن كلينتون كان يستخدم هذه القدرة أو المهارة حسب الحاجة في مقابلاته الشخصية.
ولكن هل هذا الشعور هو التعاطف Empathy أم مشاركة وجدانية Sympathy الذي يتم الخلط بينه وبين المفهوم الأشمل والأوسع التعاطف (التماهي العاطفي) في كثير من الأحيان؟.
التعاطف أكثر من مجرد الإحساس العفوي بالآخر، الذي يغمرنا أو يستحوذ علينا استناداً لمشاعر الآخر، وقد يدفع أعيننا لذرف الدموع. فالمشاركة الوجدانية هي مجرد مرحلة سابقة للتعاطف. فعندما نشارك الآخر وجدانياً نتذكر كيف "يكون" الحزن أو السعادة أو الحنق إننا نتقاسم هذه الخبرات و يمكننا لهذا أن نعزي أنفسنا، أن نفرح أو نتوتر. و هكذا ينشأ بين الناس تشارك مصبوغ بالانفعال أو المشاعر، إلا أنه من حيث المبدأ تشارك سطحي.
إلا أن التعاطف أكثر من مجرد التشارك الوجداني. إنه يصف القدرة على فهم خبرات الآخر والاستجابة بناء على هذا الفهم بالشكل المناسب.
التعاطف ليس مجرد المشاركة في المشاعر فحسب إنه يحاول فهم ما هو كامن خلف هذه المشاعر. لهذا يشترط التعاطف الإصغاء الدقيق و الملاحظة الدقيقة. فإذا أردنا أن نكون متعاطفين فإننا نريد أن تفهم بدقة ما الذي يجري في الآخر. لهذا نحاول أن نرى العالم بعيونه "أن نرتدي حذائه". وهذا التبديل للمنظور (والتخلي العابر عن منظورنا) يفتح لنا تفهماً يتجاوز المشاركة الوجدانية لآخر. و بمجرد نستطيع "قراءة"، ما الذي يفكر فيه الآخر و يحسه و ما ينويه و ما هي الدوافع و والعقد التي دفعه و هو موقفه نحونا، عندئذ يمكننا أن نتعاطف معه. وهذا يعني: أننا نستطيع عندئذ مساعدته -أو حتى حماية أنفسنا من نواياه و مخططاته. إذ أنه يمكن استخدام التعاطف لصالح الآخر أو لإلحاق الضرر به. فمن يعرف بشكل جيد ما "يدور" في رأس المحيطين به فإنه لا يستطيع نصحه أو حمايته فحسب وإنما توجيهه و استغلاله.
ويعرف باحث التعاطف وليم إكس William Ickes القدرة التعاطفية على النحو التالي: الاحتضان التعاطفي (من الذات نحو الآخرين) ليس أكثر من شكل من قراءة الأفكار الذي نمارسه في حياتنا اليومية....إنه على ما يبدو ثاني أكبر الإنجازات القادر عليها دماغنا، حيث أن الوعي نفسه هو الإنجاز الأكبر"
فالتعاطف يمكِّننا مشاركة الآخرين حياتهم وتوسيع أنفسنا وبالحرف تجاوز حدودنا. فمن خلال تجاوز تفكيرنا لذاتنا و ونضع أنفسنا مكان الآخر فإننا لا نوسع عالم رؤيتنا فحسب وإنما أيضاً فهمنا لأنفسنا. التعاطف هو الرابطة التي تربطنا بالآخرين -إذ كنا سنكون بدون التعاطف إما فردانيين أو منغلقين ، منغلقين على أنفسنا. وبدون التعاطف لا يمكن أن يوجد التفهم، ولا علاقات دائمة ولا حميمية بين الناس.
ويمكن اعتبار التعاطف Empathy كفاءة أو قدرة مهمة من أجل البقاء مبرمجة في دماغنا -سواء في "دماغنا الانفعالي" أم في أم في الجهاز اللمبي أم في قشرتنا الدماغية Neo cortex.
فالجهاز اللمبي وبشكل خاص اللوزة amygdale تستجيب للمحيط بشكل سريع وانفعالي: إما بالهرب أو المواجهة، بالدموع، بالشره والطمع أم بالرغبة. وفي مجرى ملايين السنين من التطور المستمر تشكلت القشرة الدماغية لتصبح الجهة المسؤولة عن التفكير و الاستجابة. وتعمل القشرة الدماغية المرتبطة بصورة وثيقة مع جذع الدماغ الأقدم من الناحية النشوئية بشكل أبطأ من جذع الدماغ. إذ أن وظيفتها هي التفكير و الاختبار و عكس الواقع المعقد. فالقشرة الدماغية تعمل بشكل يشبه المكابح بالنسبة للاستجابات الآلية المتسرعة في الغالب لجذع الدماغ. و بالتدريج تطورت من الانفعالات الأساسية كالخوف و الحنق و الفرح والحزن أشكال أكثر تمايزاً من التعبير: فمن الحنق"المجرد" تطورت مشاعر معقدة كالغضب أو الغيظ، الرثاء أو الخجل؛ ومن الرغبة نشأ الحب، الحنان، ومشاعر الانتماء. و قد أصبح مهماً بالنسبة للحياة المشتركة التعرف على هذه المشاعر وتفسيرها بشكل صحيح.
وضمن الظروف العادية يعيد الإنسان تاريخه التطوري في سنواته الأولى من العمر: فحتى المواليد الجدد يستجيبون لبكاء الأطفال الآخرين و ويبدءون هم أنفسهم بالبكاء. -على نحو يمكن تسميته "بالعدوى الانفعالية"، وفي عمر الشهرين يبكي الطفل عندما يرى دموع الغرباء، أو يستجيب بابتسامة. فالأطفال فهم يمكنهم في وقت مبكر التعرف على المشاعر و "يعكسون" -في أية حال المشاعر "البسيطة" فحسب، كالفرح أو الحنق أو الحزن، وليس المشاعر المعقدة كالخجل أو الازدراء. وفي عمر السنوات الست يدرك الأطفال أنه يمكن أن يكمن خلف التعبير عن شعور ما شعور آخر مختلف كلية. وفي عمر السبع سنوات يفهمون المواقف المعقدة، التي تظهر فيها مشاعر على نحو الغيرة والذنب والفخر أو التواضع. وبالتدريج يصبح لهم أيضاً دور الدوافع والمقاصد الكامنة خلف تعبير ما أكثر وضوحاً. وبين سن التاسعة و الحادية عشرة يمكن للأطفال أن يتعرفوا من الإشارات غير اللفظية إذا أراد شخص ما خداعهم أو خداعهم واستغلالهم.
ويحتل التعبير عن المشاعر في السنوات الأولى من الحياة أهمية كبيرة بالنسبة لنمو التعاطف: إذ علينا أن نكتشف مشاعرنا عبر مرآة والدينا -علينا أن نتعرف على أحاسيسهما كي نفهم مشاعرنا، كي نبني عالم مشاعرنا الخاص. فعندما نضحك ولا واحد يضحك معنا، وعندما نبكي ولا يبكي أحد يواسينا، فلن يتم "توكيد" أو "برهان" مشاعرنا. وبالتدريج نحصل على صورة مشوهة لعالمنا الداخلي، لذاتنا. ولكن في حال استجاب الوالدان تعاطفياً فإننا نشعر بأننا مقبولون وننظر لانفعالاتنا (والتعبير عنها) بأنها مقبولة و مبررة أو مشروعة. وأخيراً فإننا نتمثل الاهتمام التعاطفي المتمثل في أننا نصبح غير متعلقين "بالانعكاسية"، أي باستجابات الوالدين الانفعالية علينا، وأننا نحن أنفسنا نستطيع أن نواسي أو نعزز أو نشجع أنفسنا بأنفسنا.
"أعرف ما الذي تحس به"، "أعرف ما يدور بداخلك"، - مثل هذه الجمل تساعدنا في بعض المواقف، إنا تعبر عن الحساسية Sensibility والمشاركة الوجدانية Sympathy، إلا أن التعاطف أكثر من مجرد هذا: فعندما نكون متعاطفين فإننا لا نمتص بصورة سلبية Passive المشاعر التي يعيشها الآخر الآن فحسب، إذ أن التعاطف أكثر من مجرد نوع من الواقع التقديري الذي نفكر ونشعر فيه كما لو كنا مكان الآخر. فالتعاطف يسأل: ما الذي يعنيه شعور ما؟ ما الذي أراه من خلال التبصر في العالم الروحي للشخص الآخر؟ لهذا يتطلب التعاطف -إلى جانب كل التشارك والإحساس بالآخر- درجة معينة من البعد. ويقول وليم إكس في هذا الصدد: التعاطف عبارة عن استنتاج مركب ترتبط فيه الملاحظة والذاكرة والمعرفة والتفكير من أجل الوصول لاستبصار في مشاعر وأفكار الناس الآخرين".
فمن يكون تعاطفياً أو متعاطفاً لا يذوب في مشاركة المشاعر أو لا يشارك الآخر الغضب والفرح. التعاطف يعني التعلم من الحوار - والتصرف بعد ذلك. التعاطف ليس هدفاً بحد ذاته. إذ أننا بمساعدته نوسع معرفتنا وذخيرتنا السلوكية ونحسن تفهمنا للعالم والبشر كي نتمكن من حل المشكلات بشكل أفضل وتجاوز الأزمات والتعرف على الأسباب الأعمق.
التعاطف ليس أمراً احترافياً مقصوراً على المعالجين النفسيين أو الأطباء وإنما هو جزء من الذكاء الانفعالي الذي يجعل من العيش المشترك ممكناً و محمولاً في الحياة اليومية ويوسع في الحالات المثلى التفهم والتسامح والنجاح عند أولئك الذين يمارسونه.
إلا أنه لابد من التمرن على هذه القدرة أو المهارة المولودة و تحسينها وتطويرها، ولابد من عدم تركها تذبل أو تجميدها على مرحلة المشاركة الوجدانية.
التعاطف عمل نفسي أو جهد نفسي، أبعد من مجرد إحساس:"تسلق الجبال أو الوصول بالتعاطف نحو الكمال كلاهما عمل شاق و مرهق...فمن أجل الوصول للقمة نحتاج إلى نقاط استناد كثيرة و ومعالم طرق كثيرة"، كما يذكر عالمي النفس الاجتماعيين سارة هودغس و دانييل فيغنير Sara Hodges & Daniel Wegner.
فالمستمع المتعاطف يستجيب لكل موقف بحساسية، ولا ينساق وراء القوالب الجامدة و الأحكام المسبقة، ويسجل أدق التغيرات و أقل الأصوات انخفاضاً. و إلى جانب التدريب يتطلب التعاطف و معرفة الذات التركيز والانتباه بشكل خاص. ويطلق بعض الباحثين على هذا الانعتاق من فيض الشعور بوصفه "الأنا المُراقِب" تسمية ما وراء الاستعراف Meta cognition. وقد نصح سيجموند فرويد باتجاه مشابه نحو العمل العلاجي -الانتباه المُحلِّق بشكل حيادي". ويفضل بعض النفسانيين استخدام مفهوم "الوعي" والانتباه اللامتحيز للحالات النفسية للآخر والذات. ويعد هذا الانتباه الشرط الأولي للتعاطف.
ومن أجل إيجاد المدخل التعاطفي للآخرين علي في البداية ملاحظة أحاسيسي وسلوكي أنا: طيف أعبر أنن نفسي عن أفكاري ومشاعري كي أصل لقلب وعقل الآخر؟ كيف أظهر بالشكل الأمثل بأني "أفكر معه" بالفعل وأرغب بمساعدته؟.
إبطاء العملية :
تجتاحنا في بعض الأحيان انفعالات غامرة، إنها تعمينا بالحرف عما يدور حولنا. والانفعالات السلبية كالخوف أو الغضب بشكل خاص تطلق هرمونات الإرهاق، تجعل العضلات تتشنج و تضيق الاستثارات الفيزيولوجية من الرؤية و تخفض بصورة مؤكدة من قدرات الإدراك. وعندما نشعر أن شخص ما يعاني من هذه الحالة نبدي التعاطف وذلك بأن نساعده على "التنفيس" عما بداخله وعلى ألا يستخلص استنتاجات متسرعة. وتتجلى القدرة التعاطفية من خلال مساعدتنا لشخص ما على كيفية رؤية "الكل الأكبر" قبل أن يستسلم لتصرفات طائشة.
السؤال بصورة صحيحة :
بعض الأسئلة تتضمن الإجابة، أو بشكل أدق: تتضمن الحكم، "أنت تعتقدين إذاً أن صديقتك الجديدة جيدة" تسأل الأم ابنتها بصوت متهكم، مسبقة بهذا ردة فعل دفاعية تصغيرية- البنت تصمت أو تتبنى الحكم السلبي. فإذا ما كانت الأم تريد أن تعرف ما الذي يدور بالفعل داخل ابنتها فعليها أن تطرح سؤالاً صريحاً -تعاطفياً: "ما الذي يعجبك بصديقتك بشكل خاص"؟. فالأسئلة الصريحة تقود لاستقصاء الذات عند المسؤول- وتبث في الوقت نفسه: أنا مهتم بالفعل بوجهة نظرك.
الانتباه للجسد :
عندما نجلس مقابل شخص آخر متوتر فإن توتره سوف يمتد إلينا إن عاجلاً أو آجلاً. ويدفع غضبه ضغط الدم لدينا للارتفاع. ويمتد تأثير الجهاز الودي (السمبتاوي) الذي يعد جزءاً من الجهاز العصبي المسؤول عن حشد ردود فعل المواجهة أو الهرب، عبر ما يسمى بالتزامن الفيزيولوجي إلى أبعد من المصدر -وينقل الغضب الخارجي، أي غضب الآخر إلينا، إننا نصاب بالعدوى منه وقد نعتبر أنفسنا هدفاً لهذا الحنق، ونستجيب بصورة دفاعية بدلاً من التنقيب بشكل أعمق. أما الاستجابة التعاطفية للغضب الخارجي، غضب الآخر، فلن يكون ممكناً إلا عندما نتمكن من حشد الجهاز العصبي نظير الودي (الباراسمبتاوي) المسؤول عن الاسترخاء و الحفاظ على الطاقة. وهذا ما نتمكن منه عندما نتمكن من تشغيل التفكير و توجيه الذات- كأن نتذكر على سبيل المثال كيف كنا نحن أنفسنا غاضبين لأننا شعرنا بأننا معزولين أو مساء فهمنا أو مرهقين.
ومن هنا يمكننا أن نستخدم التزامن الفيزيولوجي بصورة واعية، بهدف إحداث تأثير معاكس، وذلك بأن نغير من تعابيرنا على سبيل المثال. فبدلاً من انتقال التعبير عن الغضب، نبقى مسترخيين، ومن ثم فإننا نؤثر بهذا على حالتنا. وبالتدريج تنعكس عملية التزامن، ونؤثر على الآخر بشكل مهدئ. ونستطيع أن نظل من خلال الاتجاه التعاطفي منفتحين على إشارات الآخر، إننا نصغي بشكل أكثر دقة ونراقب بصورة أكثر حدة مما لو كنا متوترين أو مستثارين. وباختصار: إننا نستطيع فهمه بشكل أفضل، وأن نوصل له هذا التفهم.
الاحتفاظ بالماضي في المدى المنظور :
في الاتجاه التعاطفي يمكن ألا يكون للسلوك الراهن لشخص ما علاقة بالوضع الراهن، وبشكل خاص إلا تكون له علاقة بنا. فقد لا يكون زميلنا المتجهم غاضباً منا، فقد يكون مثقلاً بصراع أسري غير محلول، أو يعاني من غيظ متراكم بسبب مرتبه السيئ. إننا نجر وراءنا صراعاتنا غير المحلولة كلها أو نتذكر فجأة مرحلة مخجلة من حياتنا. يلون الماضي الحاضر، وغالباً ما ينصب هذا على الناس الخطأ. وفي مثل هذه المواقف يكون من المفيد كبت الاستجابة، وعدم المعامل بالمثل، وهكذا يمكننا البقاء موضوعيين ونرى بدقة أكبر.
جعل القصة تتفتح :
يتيح لنا التعاطف ترك الآخر يروي لنا قصته، دون التسرع في الحكم أو مقاطعته أو دون نلح عليه في قبول نصائحنا الجيدة. وهذا يعني في بعض الأحيان التمكن من الانسحاب و كذلك عدم تحريض الراوين المفرطين.
يتطلب التعاطف التوقيت الجيد: الإحساس بأنه "سيأتي شيء ما بعد ذلك"، الإنصات إلى أن الآخر يخفي خلف هذا الشعور شعوراً آخر. وعليه فالحنق أو الغضب غالباً ما يكون انفعالاً مقنَّع مختار -فخلفه تكمن على الأغلب الخيبة، والانجراح، واليأس ومشاعر العزلة وبشكل خاص غالباً ما يكمن خلفها الإحساس بعدم الفهم.
الرجال بشكل خاص كانوا قد تعلموا بأن ينبغي إخفاء المشاعر التي يمكن أن تعبر عن الضعف وراء واجهة من الحنق والغضب. ويشير عالم نفس النمو وليم بولاك William Pollack في كتابه بعنوان "شبان حقيقيون"، بأنه غالباً ما يتم تدريب اليافعين بالتحديد بالتعبير عن طيف انفعالاتهم كلها بالغضب والعدوان. إلا أنه من خلال التعاطف يمكن تهديم هذه الواجهة: فبمجرد أن يتعرف اليافعون بأنه يمكن أن يكن لهم التفهم و التعاطف وأنه أمر طبيعي أن يشعروا بالوحدة والإحباط أو بعدم الفهم، فإنهم يتوقفون عن الخجل من هذا المشاعر التي يعتقدون أنها "مشاعر لا إنسانية".
وضع الحدود :
لا يعني التعاطف الإفصاح للآخر عن مقاصدنا من أجل أن ندفعه للمصارحة. يعتقد الكثير خطأ بأنهم عندما يروون شيئاً ما من حياتهم الخاصة أو من محيط مشاعرهم ("لقد مررت مرة بخبرة مشابهة") فإنهم يحققون بذلك أساساً من الثقة. إن من يروي شيئاً ما عن نفسه يمكن أن يحقق بعض الراحة على المدى القصير إلا أنه على المدى البعيد فإن هذه المصارحة المساء فهمها غير فاعلة. فكل إنسان يرغب في أن يرى أن مشاعره محترمة بوصفها مشاعر أو مشكلات فريدة من نوعها، ومن ثم فليس من المفيد عندما يؤكد له احدهم بأنه قد مر بالخبرة نفسها. وحتى عندما يبدو الأمر غير منطقي، إلا أن الحقيقة أن تبادل الحميمية يعيق التعاطف. فمن أجا التمكن من الإصغاء دون أحكام مسبقة علينا الانفصال لبعض الوقت عن خبراتنا: حتى عندما يبدو لنا أن كثير مما نسمعه معروف لنا، فعلينا أن نكون منتبهين، وكأننا نسمع قصة الآخر للمرة الأولى. وسواء كان ذلك في العلاج أم في الحياة اليومية: ينبغي للتعاطف أن يمكننا من اكتشاف الفروق الدقيقة بيننا -وفهمها- وتقبلها. فالتعاطف عبارة عن تفاعل معقد بين المشاركة و الإحساس بالآخر (مشاركة الآخر المشاعر) من جهة و الاستقلالية والبعد Distance من جهة أخرى. -إنها توازن بين الالتزام ودور المراقب الموضوعي: إنها معرفة أين يتوقف "الأنا" ويبدأ "الأنت"، حتى في أكثر العلاقات حميمية. ومن أجل أن نكون حساسين علينا ألا نكون جزءاً قصة الآخر.
في دراسة حول فاعلية باعي سيارات الفورد ظهر أن الناجحون يتميزون عن زملائهم الأقل نجاحاً، بأنهم لا يتماهون مع الزبائن وإنما بقوا محتفظين بمسافة داخلية. وبما أن الإصغاء التعاطفي يعد كفاءة محورية للبائعين فإنهم يستطيعون استشفاف الحجج والاستراتيجيات التي يمكن أن تقودهم للهدف -أي لعقد الصفقة في هذه الحالة.
تقويم الآخرين بشكل صحيح :
يتطلب الإصغاء التعاطفي تبني رؤية الآخر للعالم دون نظريات أو فرضيات مسبقة حول الآخر. من أجل خبرة حقيقته الذاتية التي هي الحقيقة حول نفسه. فنحن لا يمكننا أن نعرف شخصاً ما بالفعل لم نكن قد أصغينا إليه قبلاً لفترة طويلة و بشكل مركز. وهنا يساعدنا من التأكد بين الحين والحين فيما إذا كان شريك المحادثة يشعر بأنه مفهوم بالفعل، وفيما إذا كان يعتقد بأنه قد عبر عن كل ما يعتبره مهم بالنسبة له. ويقترح كارل روجرز مؤسس العلاج النفسي المتمركز حول المتعالج استراتيجية خاصة بهدف تحسين فن الإصغاء. ففي نقاش ما أو جدل ينبغي استخدام القواعد التالية:" لا يحق لأي شخص أن يتحدث عن نفسه، قبل أن يكون قد أعاد أفكار ومشاعر محدثه أو محدثته بدقة" فعلى كل مصغ أن يكون إذاً قادراً على تلخيص رؤية أو وجهة نظر الآخر بدقة. ويشير روجرز في كتابه بعنوان "On Becoming a Person":"أيبدو ببساطة غير حقيقي؟ ولكن عندما تحاول فسوف تستنتج أن هذا من أصعب ما قمت به في حياتك. إلا أنك عندما تكون قادراً على تبني منظور الآخر فلا بد لك من أن تغير رأيك بشكل كبير. وسوف تلاحظ كذلك كيف يهدأ التوتر في المواجهة فجأة و كيف تختفي الفروق، وما يتبقى من الفروق يصبح أكثر وضوحاً وعقلانية".
الجانب المظلم من التعاطف :
القدرة على التعاطف ليست امتيازاً يختص به الناس ذوي النوايا الطيبة فقط. إذ يمكن أن يتم استخدام التعاطف ضدنا، من النصابين و الأنانيين و المظللين. فقد كان هتلر تعاطفياً بطريقته الخاصة، وذلك عندما فهم رغبات وعقد وطموحات الألمان واستغله. فكلما استطاع شخص ما الولوج إلى جوهر عالمنا الداخلي، سهل عليه استغلالنا. ومن أجل مقاومة ذلك علينا أن نشحذ انتباهنا التعاطفي الخاص، عن طريق:
1- التفريق بين التعاطف الوظيفي والأصيل authentically and functional Empathy :
غالباً ما نحس بدقة كبيرة فيما إذا شخص ما يريد سبرنا من أجل خداعنا أو استغلالنا أو يغبننا. فالحدس والموقف يقولان لنا بوضوح فيما إذا كان علينا أن نتقبل عرضاً للمساعدة أم من الأفضل ألا نفعل ذلك. إلا أن التعاطف الأصيل قد يختلط -حتى في العلاقات الحميمة- مع التعاطف الوظيفي: فقد يبدو الشخص لنا لطيفاً، إلا أنه يربط المشاركة الحقيقية مع رغبات أنانية ("بما أنك تقول لي أنك تملك مبلغاًَ في البنك، فهل لك أن تقرضني مبلغاً من المال"....)، وهذا أمر عادي طالما نظل قادرين على فهم اللعبة و لا نشعر بالاستغلال.
2- معرفة الرغبات الذاتية :
من يعرف نقاط ضعفه، يحمي نفسه من الاستغلال. جميعنا يملك رغبات وأحلام و عقد و وميول تجعلنا حساسين للكلمات العاطفية الصادرة من الآخر. وكلما كانت معرفتنا "بالنقاط الرخوة" من نفسيتنا أفضل كنا أكثر حذراً عندما يبدو لنا شخص ما متعاطفاً، إلا أنه داخلياً يسعى للاستغلال.
3- تدريب النظرة الواسعة (اللاتمركزية) :
تقوم اليقظة التعاطفية بتسجيل الأمور الدقيقة التي قد تبدو ليست ذات أهمية في سلوك الآخرين. فالتناقضات الصغيرة و التباعد بين أقنية التواصل المختلفة -التعابير، الصوت، لغة الجسد- تعد معلومات مهمة، التي تكشف لنا بمجملها الحقيقة التعاطفية. لهذا يحتاج التقويم الدقيق لمقاصد الآخر الوقت. التعاطف عبارة عن نتيجة لخبرة -أها[5].
4- منع الحميمية غير المطلوبة :
لا بد للحميمية العفوية للبائع أو رفع الكلفة المفاجئة دون مقدمات من مسافر ما يجلس بجانبنا، الذي نكاد لا نعرفه إلا من ساعة واحدة أن تجعلنا شكاكين. وكذلك هو الحال في كل حميمية التي لم "ندعو" لها. فمن لا يحترم حدودنا ويلح علينا انفعالياً ويستجيب باستياء لعدم اهتمامنا يكون قد كشف القناع. فالتعاطف الأصيل يحترم رغبة الآخر بالتباعد.
5- التعاطف لا يعني: "اللطف مع الآخرين" :
ليس هدف الإصغاء التعاطفي خبرة ذلك الشيء الذي نريد خبرته، ولا يعني كذلك الحصول على إعجاب الآخر و نعززه بأخطائه أو آراءه. التعاطف ليس العطف أو الإشفاق. الهدف هو التقدير الواقعي والدقيق للآخر-بهدف مساعدته. فإذا لم يرد شخص ما أو لم يتمكن من تقبل اتجاهاتنا التعاطفية، علينا ألا نشعر بالذنب بسبب ذلك.
"أنت لم تعرفني أبداً" :
العشق، بكلمات المحلل النفسي إيلفن سيمارد Elvin Semard، هو "الشكل الوحيد المقبول من الذهان في ثقافتنا". وينطبق هذا بشكل خاص على الطور الأول من الحب المتمثل في المثلنة المتبادلة Idealization . فنحن نكون صورة عن الشريك تتلاءم مع حاجاتنا و رغباتنا، وبشكل خاص الرغبة بأن نكون محبوبين. وبما أننا نصاب بالعمى عن كل ما يخالف هذه الصورة أو عن كل ما لا يتلاءم معها، فإننا نكون كأشخاص حابين جدد كل شيء عدا عن أن نكون موضوعيين. و في هذه المرحلة النرجسية لا يمكننا أن نكون متعاطفين.
وبعد فترة من الزمن تبدأ وبصورة حتمية أولى التصدعات في الصورة غير الواقعية: فالشريك يشخر أثناء النوم، ويصدر أصواتاً من فمه أثناء الطعام، وفوضوي ويقهقه بصوت مرتفع لأسخف النكات ...الخ. فإذا كنا الآن متعاطفين فإننا سوف نتحمل هذا. إذ أننا من خلال الملاحظات و الملاحظات الذاتية بأنه ليس هناك من إنسان كامل. والتعاطف يستطيع أن يتحمل التناقضات بشكل جيد، ذلك أنه من حيث المبدأ تقنية التمايز أو التنوع. . إنه لا يلون الأشياء إما بالأبيض أو الأسود. إلا أنه في هذه المرحلة من الصحوة غالباً ما ندفع الأمور نحو الاستقطاب، ونقلل من الشريك بشكل مخيب. وهنا تظهر العدوانية والخلافات المتكرر.
وفيما إذا كان هذا الطور الحرج سينتهي إلى طور التكامل، فإن ذلك يتعلق بما إذا كنا نحن نعرف على نقاط ضعفنا وأخطاءنا وألا نسقطها على الشريك وبما إذا كنا سنتعلم تقبل "عيوبه". ويتيح التعاطف دمج الصفات المتناقضة في صورة كلية إيجابية. وهذا يعني، أننا نستطيع أن ندرك أنفسنا وشريكنا على أننا "ليسا كاملان، إلا أننا مع ذلك فنحن جديران بالحب". فالتعاطف المتبادل يصنع من العشق حباً، ومن المثلنة المدفوعة بشكل نرجسي، ومن "الخيبة" المبالغ بها ينشأ التوازن بين التقارب والتباعد. بالإضافة إلى ذلك فإن التعاطف يثري الشخصية، ونصبح شفافين في الحوار مع الآخر، ونطور أنفسنا من خلال تعلمنا دائماً فهم الآخر.
وقد يصبح الأمر وخيماً في بعض الأحيان، وذلك عندما تتجمد عملية التعاطف المتبادل هذه، لأن أحد الشريكين قد توصل في لحظة من اللحظات بأنه "يعرف الآخر كلية"، فلا يعود يصغي إليه بدقة و يتوقف عن السعي نحو تعلم الرغبات المتجددة ووجهات نظر المتغيرة للآخر. وغالباً ما تعبر الجملة القائلة "أنت لا تعرفني على الإطلاق" عن بداية النهاية، و تشير إلى حقيقة أن هذا هو الواقع بالفعل وأن الشريكين قد عاشا إلى جانب بعضيهما البعض بشكل لا تعاطفي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العنوان الأصلي: Empathie: die Kunst, sich einzufuehlen
Psychologie Heute -Mai-2001
هايكو إيرنست
المقال ترجم و نقل من موقع أ. د سامر رضوان