تحقيق حول الصحة النفسية

كاتب المقال: الإدارة
التاريخ: السبت, يونيو 6, 2015 - 11:28

الأمراض النفسية هي تلك الأمراض التي ينتج عنها اعراض نفسية يشعر معها المصاب بعدم الارتياح والاستقرار النفسي وقد يؤدي ذلك إلى خلل في التكيف والتأقلم مع ظروف الحياة ، وقد يصاب الشخص باضطراب في التفكير والسلوك والإدراك مما يؤدي إلى تغير شخصيته وطريقة تعامله وسلوكه مع الآخرين وهذا الأخير هو ما قد يسمى بالمرض العقلي .

الحقيقة إن الغالبية العظمى من الأمراض النفسية غير محددة السبب ، إنما هي مجموعة من العوامل تؤدي مجتمعةً أو بعضاً منها إلى ظهور المرض النفسي ، وهذه العوامل قد تكون بيئية تشمل نشأة وأسلوب تربية المرء منذ صغره والظروف المحيطة والضغوط التي مر بها والتي قد تنعكس سلباً أو إيجاباً على صحته النفسية لاحقاً ، وقد تكون عوامل وراثية حيث يوجد لدى عائلة المريض تاريخ أصابه بمرض نفسي ، مع العلم أن تأثير العامل الوراثي قد يكون أظهر وأوضح في بعض الأمراض النفسية دون بعض ، وأحب أن أشير أيضاً أنه ليس كل من كان ينتمي لعائلة لديها مرض نفسي أنه سيصاب بمرض نفسي ، بطبيعة الحال قد يكون بعض أبناء هذه الأسرة أكثر عرضةً من غيرهم للإصابة بالمرض النفسي خاصة في حال توفر عوامل أخرى تساعد على ظهور المرض لديهم مثل عوامل التنشئة والتربية مثلاً .
هناك أيضاً العوامل العضوية ( البيولوجية ) مثل إصابات الجهاز العصبي وجهاز الغدد الصماء وغير ذلك و العامل العضوي أحياناً يكون سبباً مباشراً في الاضطراب النفسي فمتى زال المرض العضوي يزول معه الاضطراب النفسي ، وبالتالي يحتاج المريض النفسي إلى الفحص العضوي لاستبعاد مثل هذه الأسباب .
بالنسبة للمحور الثاني والخاص بزيادة نسبة المرضى النفسيين وأسباب ذلك من خلال العمل الميداني فحتى أكون أكثر دقة سأجعل الحديث عن زيادة نسبة مُراجعي العيادات والمستشفيات النفسية ، لأن الحديث عن زيادة مرض ما في مجمع معين لا بد أن يكون مبنياً على دراسة علمية لا على مجرد انطباع أو وجهة نظر ، لذا أقول إن من أسباب زيادة المراجعين ما يلي :
أن تكون هناك زيادة حقيقية في الأمراض النفسية ، ويمكن عزو هذه الزيادة إلى أن عوامل التنشئة والتربية والتي أشرت إليها سابقاً قد تغيرت كيفاً وكماً ، فلم تعد الأسرة أو المدرسة أو حتى المجتمع هي المصادر الوحيدة التي يتلقى منها الطفل أو الشاب ثقافته و أخلاقه ، بل ونتيجة للتطور الهائل في مجال الاتصال والإعلام حدث انفتاح كبير على ثقافات أخرى قد لا يميز فيها الناشئ الغث من السمين ، ويرى فيها ما يتصادم مع دينه وأخلاقه ، علاوةًً على انشغال الوالدين عن تربية الأبناء خاصة في مرحلتي الطفولة والمراهقة .
وتحت مظلة العوامل البيئية و الظروف المحيطة تأتي أسباب أخرى مثل الفراغ والبطالة وهي تربة خصبة لتفاقم المرض النفسي والانغماس في المخدرات وغيرها إلا من عصمه الله .
أيضاً فإن الإغراق في الكماليات وجعل الحصول عليها من الضرورات ساهم في زيادة الضغوط على الفرد وبالتالي زيادة احتمالية الإصابة بالمرض النفسي خاصة عند مَن هُم مهيئون للإصابة بمثل هذه الأمراض .
سبب آخر ولكنه سبب إيجابي ، ساهم في ارتفاع عدد المراجعين وهو زيادة وعي المجتمع بطبيعة الأمراض النفسية وإمكانية علاجها ، إضافة إلى التقدم الكبير في العلاجات النفسية ، صاحب ذلك زيادة عدد العيادات والمراكز المتخصصة سواءً الحكومية أو الأهلية ، مما ساعد في التخفيف من الوصمة

التي كانت تلاحق المريض النفسي وهي - أي الوصمة - وإن لم تزل موجودة حتى على المستوى العالمي ، إلا أنها أقل وطأةً من ذي قبل .
بالنسبة للمحور الثالث (تصحيح النظرة وبث الوعي في التعامل مع الأمراض النفسية ..) الواقع أن الجانب التوعوي و التثقيفي هو أكثر ما ينقصنا في التعامل مع الأمراض النفسية ، بدءاً من المريض نفسه حيث يعيش المعاناة ويتجرع مرارة المرض ومع ذلك لا يطلب الدواء ، أما جهلاً وإما ظناً منه أن من يراجع العيادات النفسية لابد وأن يكون مصاباً بالجنون ... ، وتستمر المعاناة ويستمر التدهور ، والحقيقة أن أهمية التوعية والتثقيف تنبع ليس من أجل أنه يمنع وقوع المرض ، ولكن بالتوعية قد نتدارك المرض في بدايته ، و بالتوعية قد نقلل من أثاره السلبية على المريض وقد نمنع من انتكاسة حالته بإذن الله ... ، وبلا شك فإن من أهم سبل وطرق بث الوعي وسائل الإعلام كإقامة اللقاءات مع المختصين من خلال برامج ثقافية وأخرى للاستشارات النفسية عبر الإذاعة و التلفزيون أو الصحف و المجلات ، إضافة إلى تصحيح بعض المواد الإعلامية والتي تصور المريض النفسي بأنه مجرم ، عنيف ، منبوذ من المجتمع ، متسخ الهندام .... الخ ، وكأن هذه الصورة تنطبق على كل من يعاني من أي مرض نفسي . جانب آخر من وسائل نشر الثقافة ، وذلك عن طريق الصحة النفسية المدرسية ، من خلال منهج يدرس للطلاب أسس الصحة النفسية والحياة السعيدة وطرق الحفاظ عليها ، وتعريف بالأمراض النفسية وأعراضها .. الخ ، كذلك طباعة النشرات التثقيفية و إقامة المعارض التوعوية في الأماكن المكتظة بالناس مثل الأسواق والمنتزهات ، تخصيص مواقع على شبكة الانترنت لتعريف واستقبال الاستفسارات ..، والحقيقة أن الوسائل كثيرة جداً المهم أن نصل إلى قدر كافٍ من التوعية بين أفراد المجتمع ، فمن خلال الممارسة العملية يتضح جلياً أن المجتمع - و المريض أحد أفراده - يحتاج إلى التوعية ليكتشف المرض ، يحتاج إلى التوعية حتى يسعى في طلب العلاج ، وأخيراً وليس آخراً يحتاج إلى التوعية للاستمرار على العلاج .
المحور الرابع ( الإفراط في تناول الأدوية ... الخ )
الواقع أن جميع الأدوية الطبية وعلى وجه الخصوص الأدوية النفسية لابد أن يتم صرفها من قبل الطبيب ، ويزداد الأمر خطورة عندما يفرط المريض في تناول العديد من الأدوية النفسية نتيجة تردده على عدة عيادات في فترة واحدة ، وهنا لابد أن أشير إلى أمر في غاية الأهمية وهو أن الدواء النفسي وحده لن يعالج المرض النفسي بشكل متكامل ، قد يكون هذا صحيحا في الأمراض غير النفسية كالأمراض الباطنية مثلاً ، لكن المرض النفسي كما ذكرنا تتداخل عدة عوامل في نشوئه واستمراره ، فقرص الدواء مثلاً لن يغير أو يصحح الظروف الاجتماعية أو البيئية التي يعيش فيها الشخص ، فلابد أن يعي المريض و أهله ذلك ، فيخطي من يعتقد أن مجرد تناول حبة دواء كفيل بأن يعيد المياه إلى مجاريها ، بل إن المريض ومجتمعه لهم دور أساسي في شفاء الحالة النفسية بإذن الله ، من خلال تجاوز الأزمات ، والتخفيف أو التعامل الصحيح مع الضغوط المحيطة ... الخ ، أيضاً هناك جانب في غاية الأهمية وهو الجانب الديني وهذا جزء من اعتقادنا كمسلمين فقد قال الله سبحانه وتعالى : ﴿ من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبة ﴾. وقال تعالى : ﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب .. ﴾ علاوةً على أن الدراسات أثبتت دور هذا الجانب في استقرار الحالة النفسية ، فكثير من مرضانا و الذين يعانون من الاكتئاب يحجمون عن الانتحار بسبب الخوف من الله ، وكثير منهم يصرحون بأنه لولا الإيمان بالقضاء و القدر لكانوا أشد يأساً و أكثر قنوطاً ، أما الإحجام عن الذهاب للعيادات النفسية لمن هو في حاجة إليها فهو خطأ أيضاً من الطرف الآخر فلا إفراط ولا تفريط ، وإني لأعجب من بعض المرضى والمدركين للضرر الناتج من معاناتهم النفسية ومع ذلك نراهم يمتنعون عن مراجعة العيادات النفسية خوفاً أن يتحدث الناس بأنهم مرضى نفسيين ، ويزداد عجبي من بعض أهالي المرضى الذين يتركون مرضاهم يعانون من ويلات هذه الأمراض بل وأحياناً يقومون بتقييدهم أو حبسهم من أجل ألا يقول الناس أن لدى عائلة فلان مريض نفسي ألا فليتقوا الله فيهم .
وعلى كل فإن المحصلة المزيد من التدهور في حالة المريض الجسدية والنفسية والاجتماعية والمشكلة أن المريض كلما ازداد تدهوراً كلما ازداد علاجه صعوبة ، وقد ينتهي الأمر بالمريض إلى التشرد في الطرقات بلا مأوى وقد يشكل خطراً على المجتمع أو في أقل أحواله يكون فرداً عاطلاً يتكفف الناس .

-------------- 

المصدر: مجلة أسرتنا نشر في ربيع الثاني 1426

سجل دخول أو إنشئ حساب جديد الأن لإضافة تعليق.