الاعتكاف مدرسة العبقرية

كاتب المقال: الإدارة
التاريخ: السبت, يونيو 6, 2015 - 09:37

إذا كانت العبادات المعروفة من صيام وصلاة وحج وزكاة وسائل للصفاء النفسي والاطمئنان الروحي والتزكية الوجدانية, فإن الاعتكاف يعتبر في قمة تلك العبادات لأن ثمرته في تزكية النفس من شوائبها لا تضاهى, فللنفس آفات لا يقطع شرتها إلا العزلة عن الناس لفترة معينة كي تتم محاسبتها في منأى عن ضجيج الدنيا ومظاهرها.
إن الاطلاع على أهمية الاعتكاف في علم النفس يجعلنا نقتنع بأهميته الإيمانية من جهة ونتأكد من أن ديننا العظيم هو الثوب السابغ للفطرة الإنسانية من جهة أخرى, والقرآن الكريم يتضمن كثيرا من الآيات التي تدور حول الدوافع السلوكية للإنسان وانفعالاته وإدراكه وتفكيره, وإذا كان بعض أطباء النفس المسلمين قد فطنوا في السنوات الأخيرة فقط إلى ضرورة الاهتمام بالتراث الإسلامي - سواء المقدس منه أو البشري - للوصول إلى المفاهيم النفسية التي تعترف بنوازع الجسد دون أن تنكر أشواق الروح, فإن نقطة المقتل في نظريات علم النفس الغربي الحديث هي قصورها عن دراسة النواحي الروحية في الإنسان, وهذا ما يؤكده إريك فروم وهو محلل نفسي معاصر إذ يقول:( إن علم النفس الحديث ينصب في أغلب الأحيان على مشكلات تافهة تتمشى مع منهج علمي مزعوم, وذلك بدلا من أن يضع مناهج جديدة لمشكلات الإنسان الهامة. وهكذا أصبح علم النفس يفتقر إلى موضوعه الرئيسي وهو الروح. وكان معنيا بالميكانيزمات وتكوينات ردود الأفعال والغرائز, دون أن يعنى بالظواهر الأساسية المميزة أشد التميز للإنسان: كالحب والعقل والشعور والقيم).
عندما قرأت عبارة فروم هذه تذكرت أن علم النفس قد لاقى هوى في نفسي منذ الصغر لكن كان لدي حدس فطري بإغراقه في المادة وبالتالي بعده عن الحقيقة, الأمر الذي كان سببا لعدم قناعتي بكثير من الكتب التي قرأتها, ففي النفس البشرية لا يوجد مثل ما في الفيزياء والرياضيات أي أن 1 +1 لا يساوي اثنين؛ ولكن حصولي على كتب أخرى كان بمثابة من وقع على كنز إذ إنها عالجت هذه الموضوعات الأساسية التي ذكرها فروم والتي تجاهلها أو أنكرها مؤسسو علم النفس الحديث من أمثال فرويد وغيره, ومن هذه الكتب كتاب "الاعتكاف عودة إلى الذات" للعالم النفسي أنتوني ستور الذي يقول في المقدمة: (الشخص المبدع دائم السعي نحو اكتشاف ذاته, ونحو إعادة صياغة هويته, ونحو الوقوع على معنى الوجود من خلال ما يقوم بخلقه. إنه يجد أن هذه عملية تكاملية ذات قيمة كبيرة شأنها شأن التأمل أو الصلاة, فهي لا تتعلق بالناس الآخرين إلا قليلا, بل تقوم بذاتها في استقلال تام. ولا شك أن أكثر اللحظات أهمية هي تلك اللحظات التي يتوصل المرء خلالها إلى بصيرة جديدة معينة, أو هي اللحظات التي يتسنى له خلالها القيام باكتشاف جديد, وهذه اللحظات هي بصفة أساسية - إن لم تكن دائما - هي تلك اللحظات التي يكون المبدع منفردا فيها بنفسه).
يوضح الدكتور ستور أهمية العلاقات الإنسانية وبخاصة تلك التي تجعل لحياتنا معنى فريدا كشريك الحياة أو الصديق العزيز, ويمضي في التعريف بالاعتكاف الإجباري وهو الذي يفرض على المرء عزلة إجبارية بسبب السجن أو المعتقل, كما يحكي لنا عن جوع المخيلة وإثرائها في الخلوة, ويقص علينا كثيرا من مواقف الحداد على الأعزاء وكيف ترافقت بحالات إبداعية لا مثيل لها, مما يؤكد لنا قول جيبون: (المحادثة تثري الفهم ولكن الاعتكاف هو مدرسة العبقرية)؛ وبعيدا عن الحزن والفقد والوجد والسجن فإن الناس يختلفون في قدراتهم على التوحد كما يختلفون في أشياء كثيرة, وقد التقيت خلال حياتي بأشخاص لا يستطيعون أن يختلوا بأنفسهم لفترة طويلة, ومع أن هؤلاء قد يتميزون بجاذبية الشخصية والقدرة على المؤانسة واختراع الأحاديث وخلق أجواء من المرح لكنهم لا يمكن أن يصلوا لمرحلة إبداعية دون أن يعتمدوا على غيرهم كما لا يمكن لهم أن يطوروا أنفسهم, سيما إذا علمنا أن أكثر من يعارضون تطورنا أو تغيرنا نحو الأفضل هم أقرب المقربين منا وذلك لأنهم تعودوا على التعامل مع شخصياتنا كما هي فإذا تطورت شخصياتنا فسيكون محتّما عليهم أن يبذلوا جهدا ليتعاملوا معنا وفق شخصياتنا الجديدة أي أن يتغيروا هم أيضا. وعموما فإن قدرة المرء على التوحد تعتبر مصدرا عظيم القيمة عندما يتطلب الأمر إحداث تغييرات في الاتجاه العقلي أو- وهو الأهم- تغييرات على صعيد الحياة العامة. وأهم ما يقوله الدكتور ستور عن ضرورة الاعتكاف للتغيير هو:(لقد أدرك الزعماء الدينيون العظماء أن الاعتكاف يوفر البصيرة وأيضا التغيير, وقد دأبوا على اعتزال الدنيا قبل أن يعودوا للمساهمة فيما أوحي به إليهم. فالمسيح قضى أربعين يوما في البرية حيث كان الشيطان يجربه قبل أن يعود لإعلان رسالته للتوبة والخلاص. وكذا فإن النبي محمد كان يعتزل الناس خلال شهر رمضان من كل عام واعتكف في غار حراء).
علم النفس الآن يصر على ضرورة الاعتكاف والتأمل, ونحن ورثنا سنة نبينا عليه الصلاة والسلام بالاعتكاف في الأيام العشرة الأخيرة من رمضان, وهنيئا لمن استطاع أن يتحقق بهذه السنّة كاملة, وهي خبرة تستحق التجربة لمن لم يفعلها مسبقا, وإذا كنت قد ذكرت في بداية المقالة أهمية الاعتكاف للاستبصار فإني أقصد تحديدا التبصر في آفات النفس كالكِبر والعُجب والحسد والرياء وغير ذلك من الآفات التي تتحكم في النفس فتعمل عملها التهديمي في إحباط الأعمال الصالحة والعبادات المبرورة, وليس لهذه الآفات من علاج سوى الخلوة بالنفس بين الحين والآخر, وخاصة لأولئك الذين يحملون على عاتقهم مهمة التغيير, فلا سبيل للتأثير على الناس إلا عبر الإخلاص للفكرة, كما أنه لا مجال للإخلاص إلا باعتزال الناس والاقتراب من الله سبحانه لتجلو محبته قلب المؤمن من جميع الشوائب, فيعلم أنه لا خير في قدح الناس ولا مدحهم, ويمضي مثابرا في طريقه الذي اختطه لنفسه دون تراجع, بعكس أولئك الذين يستنكفون عن الدفاع عن قضايا عادلة بمجرد أن تعترضهم العقبة أو بمجرد أن يصل لأسماعهم بعض الذم, وعندما سألني أحدهم عن سبب تأثره بكاتب معين - معاصر أو قديم - دون غيره من الكتّاب, كان ردي أن السبب هو صدق الكاتب وإخلاصه لفكرته والتحامه بها للدرجة التي يصبح معها مستعدا أن يدفع نفسه ثمنا لخلود فكرته وانتشارها, وهو مقام التجرد من أهواء النفس لحساب الفكرة, فكيف إذا كانت الفكرة جزءا من عقيدة خالدة تتغلغل جذورها في أعماق الوجدان والقلب وتضيء بنورها آفاق الفكر والعقل؟ وكيف إذا كانت هذه الفكرة المضيئة قد خمد نورها وخبا أوارها في نفوس الناس بسبب تراكمات التقاليد وطول العهود؟
في هذا الشهر الفضيل يحلو استمطار الرحمة والمغفرة, وأول من يجب أن ندعو لهم بالرحمة والمغفرة أولئك الذين يسيئون إلينا علانية أو خفية, بقصد أو غير قصد, ويوم القيامة ينادي مناد أن يقوم من له فضل على الله, فلا يقوم إلا العافون عن الناس؛ فلنطمح أن نكون من هذه الفئة الكريمة على الله, ولنغتنم فضيلة الاعتكاف بتطوير ذواتنا بحيث لا نهتم لكلام الناس قدحا لنا أو مدحا, والله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم, وقد ورد عن أحد الصالحين أنه إذا مدحه أحد قال له:(أنا أعلم بنفسي منك فلا تمدحني), كما ورد عن آخر أنه إذا ذمه أحد كان يقول: (ما ستره الله علي أكثر بكثير مما تقوله عني).
الاعتكاف أخيرا يساعدنا على لملمة ذرات أرواحنا التي تتبعثر منا في زحام الحياة الدنيا, وهذا ما يعبر عنه وورد سورث فيقول: (عندما نبعد عن ذواتنا الحقيقية لمسافات بعيدة جدا بالدنيا التي تدفعنا دفعا فنسقط, وقد صرنا مرضى بمشاغلها, ومرهقين بملذاتها, فإننا نجد أن الاعتكاف عندئذ يكون عظيما وعذبا إلى أقصى حد).
المصدر: مجلة التصوف الإسلامي

 

 

الدكتورة ليلى أحمد الأحدب

سجل دخول أو إنشئ حساب جديد الأن لإضافة تعليق.