مستقبل الطب النفسي في عالم الطب العلاجي
كاتب المقال: الإدارة
سجل دخول أو إنشئ حساب جديد الأن لإضافة تعليق.
التاريخ: الخميس, يونيو 4, 2015 - 09:25
يتساءل الكثيرون عن مستقبل الطب النفسي في علاج الأمراض النفسية والعقلية، وهل هناك تقّدم يحدث في علاج هذه الأمراض، كما يحدث في علاج الأمراض العضوية الآخرى، حيث أن هناك تقّدماً كبيراً يحدث في مجال علاج الأمراض العضوية خلال السنوات الماضية، بغض النظر عن أسماء هذه الأمراض. الحقيقة أن التقدّم في الطب النفسي كان كبيراً في السنوات الماضية، خاصةً إذا عرفنا أن الطب النفسي لم يكن معروفاً كتخصص مستقل إلا في السنوات الحديثة، حيث كان الطب النفسي في الماضي جزء من طب الأمراض الباطنة، وكان الأطباء الذين يُعالجون الأمراض النفسية والعقلية هم أطباء الباطنة. والذي شاهد فيلم "جنون الملك جورج"، شاهدوا بأن الذين كانوا يُشرفون على علاج الملك المريض بمرض عقلي هم أطباء باطنة، وكانوا قبل حوالي 200 عاماً يحملون عضوية زمالة الكلية البريطانية للأمراض الباطنة. وبعد ذلك أصبح الطب النفسي مع طب الأعصاب، ولكنهم ظلوّا تحت مظلة الطب النفسي، بل أن في كثير من الدول حتى الآن تخصص الطب النفسي لا يزال مرتبطاً مع طب الأعصاب، والطبيب يتخرّج "طبيب أمراض نفسية وعصبية"، والكلية الملكية البريطانية للأمراض النفسية لم تظهر إلى الوجود إلا في عام 1973، أي قبل حوالي أربعين عاماً، قبل ذلك لم تكن هناك كلية ملكية للأمراض النفسية في بريطانيا، بل أن الأطباء كانوا يحصلون على دبلوم في الطب النفسي ويمارسون بعدها عملهم كاطباء نفسيين.
عندما أستقّل الطب النفسي، وأصبح تخصصاً مستقلاً في الطب تطوّر بشكلٍ سريع، وربما حدثت أكبر نقلةٍ في الطب النفسي عندما تم إكتشاف علاج الكلوربرومازين في منتصف الخمسينات وأصبح هذا الدواء أول علاج مضاد للأمراض الذهانية ولا يزال يُستخدم حتى الآن في علاج الأمراض الذُهانية.
استخدام علاج الكلوربرومازين أخرج الآف المرضى من المصحّات العقلية إلى منازلهم ليعيشوا مع عائلاتهم. بعد هذا الدواء توالت الأدوية المضادة للذُهان التي تُعالج أمراضاً صعبة مثل الفُصام والاضطراب الوجداني ثُنائي القطب وبقية الأمراض الذُهانية الآخرى، وساعدت هذه الأدوية المضادة للذُهان على علاج الأمراض الذُهانية الصعبة مثل مرض الفُصام والاضطراب الذهاني ثُنائي القطب وبقية الأمراض الذُهانية، وكذلك تم تصنيع أدوية مضادة للاكتئاب وأدوية مهدئة لعلاج اضطرابات القلق.
أصبح سوق الأدوية النفسية رائجاً في معظم دول العالم
أكتب هذا المقال الأخير لي في جريدة الرياض، بعد أن واصلت الكتابة لأكثر من عشر سنوات في هذه الصفحة الطبية، حاولت فيها أن أتحدّث عن الأمراض النفسية والاضطرابات والمشاكل التي تهّم عامة الناس من حيث الأمراض النفسية بشكلٍ عام، وكذلك الأدوية النفسية وفوائدها وكذلك خطورتها، وكتبتُ عن بعض المظاهر النفسية في المجتمع، ومشاكل خطيرة مثل مشاكل الإدمان على المخدرات والكحول وعلى الأدوية المهدئة والأدوية الخاصة بعلاج الألم.
لقد بدأت عملي في الطب النفسي قبل أكثر من خمسٍ و عشرين عاماً، ربما لي الآن حوالي سبع وعشرين عاماً أعمل طبيباً نفسياً، جزء منها في بريطانيا وباقي السنوات في المملكة. لقد تغّيرت النظرة إلى الطب النفسي بشكلٍ كبير، أتذكّر عندما بدأت عملي كطبيب مقيم في الطب النفسي في الرياض، كان الكثير من المرضى عندما يتم تحويلهم للعيادات النفسية، يرفضون مراجعة العيادات النفسية، وكان أكثر الناس يظنون بأن الأطباء النفسين لايُراجعهم إلا المجانين!. وكذلك يعتقدون بأن الأدوية النفسية مجرد مخدرات لتخدير المرضى وليست أدوية حقيقية. الآن بعد هذه السنوات أصبحت العيادات النفسية تُعاني من كثرة المراجعين وأصبح أكثر الناس يعترفون بالطب النفسي بشكلٍ كبير، وكذلك تغيّرت نظرة الناس إلى الأدوية النفسية فعرفوا أن الأدوية النفسية ليست جميعها مخدرّة بل أن الأدوية المخدرة ليست سوى نسبةٍ ضئيلة من مُجمل الأدوية النفسية وأن بقية الأدوية النفسية هي أدوية تُعالج الأمراض النفسية سوى كانت اضطرابات ذُهانية أو اضطرابات اكتئاب وكذلك اضطرابات القلق، وأن الطب النفسي ساعد الكثيرين على تخطي مراحل صعبة في حياتهم.
في السنوات الأخيرة كثرت الأدوية النفسية، وأصبح سوق الأدوية النفسية رائجاً في معظم دول العالم بما في ذلك المملكة العربية السعودية. لقد تطوّرت كثير من الأدوية النفسية في مفعولها وأصبحت الأعراض الجانبية أقل عما مضى من الوقت. لقد كانت الأعراض الجانبية واحداً من أكثر المشاكل التي تجعل المرضى يتوقفون عن تناول الأدوية، ولكن مع تطوّر الأدوية قلّت الأعراض الجانبية وأصبح هذا عاملاً إيجابياً في أن يتناول المرضى علاجاتهم النفسية، وقد ظهرت أدوية جديدة خلال العشرين عاماً الماضية سواءً كانت من الأدوية المضادة للذُهان أو الأدوية المضادة للاكتئاب. لقد ظهر ما يُعرف بالأدوية غير التقليدية في علاج الأمراض الذُهانية، وهي أدوية فاعلة في علاج الأمراض الذُهانية وأعراضها الجانبية أقل من الأدوية التقليدية، وإن كان سعرها باهظاً، خاصةً و أن أكثر المرضى النفسيين والذين يُعانون من أمراض ذُهانية يُعانون من الفقر ودخولهم قليلة، وكذلك بعض الأدوية غير التقليدية لها أعراض جانبية مختلفة، فبعض الأدوية غير التقليدية في علاج الأمراض الذُهانية تُسبّب مرضاً مثل مرض السكر و آخرى لها أعراض لا تقل عن الأدوية التقليدية من حيث التخشّب وزيادة إفراز مادة البرولاكتين ( وهي هرمون يُعرف بهرمون الحليب عند عامة الناس حيث أن ارتفاع نسبة هذا الهرمون عند النساء يُسبب إختلال في الدورة الشهرية وكذلك يمنع الحمل).
العلماء في المعامل ومصانع الأدوية يعملون ليل نهار لتطوير أدوية حديثة في الطب النفسي، وكل عام تظهر أدوية جديدة في مختلف فروع الطب النفسي، بعضها يصلنا في المملكة متأخراً بعض الوقت، لكن دائماً هناك الجديد في العلاجات النفسية ، واهتمام شركات الأدوية الكبيرة بالأدوية له أسبابه، فأسعار الأدوية النفسية أرتفع بشكلٍ كبير، كذلك فإن المرضى يستخدمون الأدوية النفسية لفتراتٍ طويلة قد تمتد سنوات أو أحياناً في بعض الأمراض المزمنة قد يستمر المريض في تناول الأدوية مدى الحياة وهذا يُشجّع شركات الأدوية على إجراء الأبحاث في تصنيع أدوية نفسية جديدة، وينفقون ملايين وأحياناً مليارات الدولارات في الأبحاث على اكتشاف أدوية نفسية جديدة. هذا التنافس بين شركات الأدوية على تصنيع الأدوية النفسية جعل المستفيد من هذا التنافس هم المرضى الذين يحصلون في نهاية الأمر على خيارات متعددة من الأدوية المتوفرّة في الأسواق لعلاج أكثر الأمراض والاضطرابات النفسية بمختلف أنواعها، وفي نهاية المطاف البقاء للأصلح والذي يفيد المريض بمفعوله وأقل أعراضاً جانبية. كذلك لم تعد فقط الأدوية هي العلاج الوحيد للأمراض النفسية، فقد تم تطوير بعض الطرق العلاجية الآخرى لعلاج اضطراب الاكتئاب مثل أجهزة حديثة تقوم بلمسات تُشبه الضرب على مكان مُعيّن من الرأس وبعد عدة جلسات في هذا الجهاز تتحسّن الأعراض الاكتئابية، وقد تم إجازة هذا الجهاز من الهيئة الأمريكية للغذاء والدواء، والآن أعتقد بأن هذا الجهاز متوّفر في المملكة العربية السعودية في بعض المستشفيات الكبيرة
العلاج بالجلسات (أو الصدمات الكهربائية ) أيضاً تطوّرت الأجهزة التي تقوم بعمل بهذه العمليات، والعلاج بالجلسات الكهربائية علاج فعّال جداً و مفيد وآمن تماماً إذا أُجري في مستشفيات تحت أشراف أطباء متخصصين وبأجهزة حديثة، وتحت تخدير عام، فإن هذا النوع من العلاج يُعتبر في بعض الأحيان مُنقذاً لحياة بعض مرضى الاكتئاب والذين يُعانون من اكتئاب شديد وأحياناً لايستطيعون الحركة أو حتى الأكل، ويكون علاج مرضى الاكتئاب الشديد بالجلسات الكهربائية هو من أنجع العلاجات لمثل هؤلاء النوع من المرضى، ولا يُسبّب أي مشاكل عضوية كما يعتقد البعض، حيث أن بعض الأفلام السينمائية صوّرت على أن هذا العلاج عقاب للمرضى ويكون بصورةٍ بشعة وهذا لا يعكس حقيقة هذا العلاج الفاعل والامين للمرضى. وأعتقد الآن مع تطوّر الآلات الجديدة والحديثة على أعلى مستوى من التقنيات جعل هذا العلاج سهل و مفيد جداً.
العمليات الجراحية أيضاً والتي بدأت قبل سنوات طويلة في علاج بعض الأمراض النفسية، عادت الآن لعلاج بعض الأمراض والاضطرابات النفسية، ولكن للآسف لم تصل هذه العمليات إلى أن تصل إلى علاج فعّال لهذه الأمراض ، و لكن لا تزال هناك تجارب في العمليات الجراحية لاضطراب الوسواس القهري ، حيث أجريت عمليات لمرضى يُعانون من اضطراب الوسواس القهري بشكل شديد في بلجيكا و ايضاً في الولايات المتحدة الأمريكية و لكن تظل هذه تجارب محدودة. الاكتئاب الشديد أيضاً أُجريت بعض العمليات الجراحية لعلاج من يُعانون من هذا الاضطراب الشديد ولكن أيضاً لم تكن نتائجها أفضل من الأدوية.
ختاماً أعتقد بأن الطب النفسي سوف يشهد تطوّراً كبيراً في السنوات القادمة إذا استمرت الوتيرة التي يعمل بها العلماء بهذا النشاط، وإذا قامت شركات الأدوية بصرف هذه المبالغ الطائلة على أبحاث لعلاج الامراض النفسية. كما أسلفت هذا مقالي الأخير في جريدة الرياض، الصفحة الطبية، وأتمنى أن أكون قدّمت خلال سنوات الكتابة التي قضيتها في الجريدة شيئاً مفيداً، هذا ما قدّرني الله عليه و أرجو من الله التوفيق لكل من يكتب في الصفحات الطبية المتميزة في هذه الجريدة المتميزة. استودعكم الله وأدعو الله أن لا يُري أي شخص مكروهاً سواء كان مرضاً عضوياً أو نفسياً.
د.ابراهيم بن حسن الخضير
جريدة الرياض