المنهج العلمى والسلام النفسي
تعتمد طريقة Ellis للعلاج النفسى بالمنطق على أن معظم الاضطرابات النفسية لا تسببها مشاكل الحياة بقدر ما تسببها مرآة المعتقدات التى تعكس هذه المشاكل على مشاعر الإنسان، فإذا كانت المعتقدات منطقية نابعة من رغبات معتدلة كانت المشاعر تجاه عوامل إعاقة تحقيق أهداف ورغبات الإنسان من النوع السلبى المعتدل. أما إذا كانت هذه المعتقدات غير منطقية ويسيطر عليها استبداد الرغبات فى شكل المفروض والواجب كانت النتيجة تطرف المشاعر السلبية التى تظهر فى شكل اضطرابات نفسية حادة - وعليه فقد اقترح Ellis طريقة للعلاج بالمنطق تعتمد على بعض القدرات الموروثة فى الإنسان وأهمها قدرات القبول والرفض وقدرات التفكير المتعدد ، وكلها قدرات تسلح الإنسان بإرادة تغيير أفكاره وسلوكه ومشاعره.
أما المنهج العلمى فهو القادر على مجادلة المعتقدات غير المنطقية فى تكرار وإصرار لمحاولة تحويرها أو تغييرها إلى معتقدات مرنة لا تتعارض مع الحقائق والمنطق ولا تصطدم بالواقع، وعليه فيصبح التغيير إلى الأحسن ويكون ضمن آثاره التخفيف من حدة المشاعر السلبية. وبذلك تتلخص طريقة العلاج النفسى بالمنطق فى استخدام المنهج العلمى لتغيير معتقداتنا من جمود اللامنطق إلى مرونة الواقعية مما يستتبعه تحويل فى مشاعرنا من الاعتلال ومن الاضطراب إلى الرشاد.
مقدمة :
يتناول هذا المقال قضية هامة من قضايانا المعاصرة وهى كيفية تعامل الإنسان مع أمراضه واضطراباته النفسية ومشاعره الحادة دون الاستعانة بالمتخصصين إلا فى أضيق نطاق. وفى ذلك فإننا نقوم بتبسيط لدراسات عالم النفس المشهور ألبرت إليس Dr. Albert Ellis حول موضوع، "العلاج النفسى بالمنطق" Rational Emotive Therapy .
لقد شاعت سمعة هذا العالم ودراساته وطريقته حتى أن معهدا يحمل نفس اسم طريقة العلاج المذكورة قد أنشيء فى مدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية للتدريب على هذه الطريقة فى مجموعات من المرضى يساعد بعضهم بعضا وبأقل قدر من الإشراف التخصصي.
ويختصر المنطق طريق العلاج من خلال ترتيب دوائر التأثير مع التركيز على الدوائر الأساسية والمباشرة وتكرار محاولة إعادة صياغتها، وبذلك فإن طريقة العلاج بالمنطق تشبه إلى حد كبير التدريبات الرياضية فتساعد الإنسان على بناء عضلات نفسية تقيه من أى اضطرابات مستقبلية فمثلا يعيش الإنسان وله احتياجات متعددة وأهداف أساسية فى بيئة شديدة التعقيد غالبا ما تعوق تحقيق بعض هذه الاحتياجات أو تلك الأهداف، وهنا تظهر مشاكل الإنسان العملية التى قد يختار إما محاوله حلها، أو الاكتفاء بالبكاء عليها والعيش فى قلق وتوتر نفسي، وهنا تتولد مشكلة نفسية نتيجة للمشكلة العملية. والمشاكل النفسية الحادة تـعيق تقديم حلول للمشاكل العملية وبذلك تتعقد الأمور وتؤدى إلى مزيد من المشاكل والاضطرابات النفسية. إن مشاكل وهموم الحياة لا يمكن تجنبها أو الحد منها، وتشجع طريقة علاج الأمراض النفسية بالمنطق على إصلاح الاضطرابات النفسية أولا ثم بعد ذلك محاولة التعامل مع المشاكل العملية بأسلوب أكثر فعالية من خلال الطرق العلمية المعروفة لإدارة الذات وحل المشكلات، وهنا يجب التنويه على أنه لا يمكن حل المشكلات العملية واتخاذ قرارات جيدة بشأنها دون تحمل شيء من المخاطرة.
المنهج العلمي :
إن المنهج العلمى كأسلوب حياة مسئولية تربوية تقع على عاتق مؤسساتنا العلمية والاجتماعية والسياسية، وذلك المنهج يستمر مع الإنسان بعد تخرجه من المدارس والجامعات فإذا ما أحسن استخدامه كانت حياته أقرب للنجاح منها للفشل، وأقرب للسلام منها للعنف، وأقرب للصحة الذاتية منها إلى الاضطرابات النفسية والاجتماعية. يهتم المنهج العلمى بالحقائق والواقع، والأخير يتغير باستمرار ويتطلب فلسفة مرنة للتعايش معه. والمنهج العلمى وسيلته التفكير العلمى المنطقى الذى لا تتعارض جزئياته كما لا يتبنى وجهات نظر متناقضة فى أن واحد. ذلك لا يعنى القبول بتطرق خيارات "الكل والعدم" وإما "هذا أو ذاك" وذلك لأن الواقع به وجها العملة ولا يعتبر التناقض فى أحداثه وخصائصه شذوذا عن مدار الواقعية. إن جوهر التفكير العلمى يعتمد على وضع الافتراضات ثم تجربتها لإمكانية قبولها أو رفضها، وذلك لأن الأفتراض ليس حقيقة ولكنه تخمين أو ادعاء، وعليه فإذا ما ثبت خطؤه فيجب رفضه، ومحاولة وضع افتراض جديد لإعادة اختباره وهكذا حتى نجد ما تقل الشكوك حول صحته، وحينئذ يمكن الاعتقاد فيه إلى أن يثبت عكس ذلك من خلال ما يستجد من معلومات. وعليه فلا يهتم العلم فقط باستخدام المنطق والحقيقة لإثبات أو نفى نظرية، ولكن الأهم هو أنه الوسيلة التى يمكن من خلالها تبنى قدرات التعديل والتغيير لافتراضات ونظريات ومعتقدات حياتنا واستبدالها، إذا ما استدعى الأمر، بافتراضات ونظريات ومعتقدات جديدة أكثر ملاءمة لظروف الواقع وحقائق العصر، ويعتمد المنهج العلمى على المرونة والانفتاح العقلى ويرفض الجمود والتبلد، كذلك فهو أسلوب للبحث عن الحقيقة - أى حقيقة، ولا يجب أن نسطح المعنى العام للحقيقة على أنها الحقيقة العلمية فقط، ولكن يجب أن نتناول المعنى بشمولية التفاعل الإنساني، وعليه فيصبح المنهج العلمى منهجا حياتيا للأفراد وأسلوبا لحركة المجتمعات. ويستطيع العلم أن يصيغ حياة الإنسان حتى يصبح تفكيره علميا فى مناقشة كل معتقداته - وهنا لا يجب فهم المعتقدات على أنها المعتقدات الدينية، ولكن المقصود هنا هو كل المعتقدات بما فى ذلك معتقداتنا الشخصية عن المعتقدات الدينية. من ذلك يتضح أن المنهج العلمى لا يقتصر فقط على قاعات الدرس أو معامل البحث ولكن يتعداها إلى حياتنا العامة والخاصة.
وفى تبنى المنهج العلمى هناك بعض القواعد العامة التى يجب مراعاتها عند التطبيق وهذه القواعد تتلخص فيمايلى :
(1) يجب قبول ما يحدث فى الحياة على أنه "الواقع" وذلك بغض النظر عن مدى حبنا لهذا الواقع أو محاولة تغييره.
(2) يجب إقرار القوانين العلمية والنظريات والافتراضات بشكل منطقى غير متعارض مع تجنب المتناقضات الأساسية والحقائق المشبوهة، كما يجب أن يعتمد مبدأ رفض النظريات والافتراضات على الحقائق والمنطق المجرد من النزوات الإنسانية والأهواء الشخصية.
(3) العلم مرن ويعتمد على الشك فى الأفكار التى يغلب على صياغتها "المطلق" و"التام من غير قيد أو شرط" و "الصحيح الأكيد" تحت كل الظروف وفى كل الأوقات. يجب تبنى النظريات والافتراضات بشيء من الحذر العلمى مع الاحتفاظ باستعدادنا لتغييرها كلما زودتنا رحلة الحياة بمعلومات جديدة تضع أساسا لهذا التغيير، أليس ذلك أسلوب حياة قد يجنب الإنسان مخاطر متعددة، ويجعله يعيش فى سلام مع نفسه والآخرين؟
(4) العلم لا يقبل نظرية أو وجهة نظر يمكن إثبات خطئها بشكل من الأشكال. وفى ذلك يعتمد المنهج العلمى على التشكيك فى ما لا يمكن اثبات صحته إلى أن تثبت صحته. إن حكمة عدم التأكد هى إحدى فوائد المنهج العلمى وهى التى تنص على : "إن معرفة الماضى قد تتسبب فى برمجة عقولنا بالبدائل النمطية التى تلقى بنا فى سجون اليقين المخادع. إن حكمة عدم التأكد تجعلنا نستسلم لقدراتنا الابتكارية التى تقذف بنا فى عالم المجهول الملييء بالفرص والاحتمالات والبدائل، كما تجعلنا ندير عدم التأكد بحكمة تضبط حركة الحياة وإيقاعها بما يضمن لهذه الحركة انسجامها مع المنطق والحقيقة والواقع.' وعليه فعلينا استخدام المنهج العلمى فى تناول كل قضايانا فلا نقبل بصحة أو عدم صحة الادعاءات دون الاعتماد على الأدلة الصحيحة التى تقاوم كل النزوات الإنسانية والمشاعر الشخصية.
(5) حينما نتعامل مع القدر والحياة فالعلم لا يقبل أن تحمل الحياة مسئولية "الاستحقاق" و "عدم الاستحقاق" فكونك أحسن الناس عزفا على الناى لا يجعلك أشهر عازفى الناي. وإذا لم تتنازل عن معتقدك الذى "يوجب استحقاقك" لتكون أشهر عازفى الناى فقد تعرض نفسك للإصابة بالاضطرابات النفسية التى تؤثر على أدائك لهذا الفن الرفيع، وهنا يجب القبول بحكمة العلم التى تقول : "إن الكون غير مدان لأحد كما لم يعد أحدا بأى شيء.' كذلك فيجب عدم تأليه الإنسان لأفعاله الجيدة أو تحقيره لأفعاله السيئة، حيث يجب الحكم على العمل ولا يجب استخدام العمل للحكم على فاعله فنقول هذا عمل جيد وهذا عمل سييء ولا نقول هذا إنسان جيد وهذا إنسان سييء ففى ذلك تعميم مشبوه وغير مقبول. كما أنه لا توجد مقاييس عالمية مطلقة للحكم على السلوك الإنسانى الذى لا يمكن أن يكون مجردا فى جملته من الأخطاء.
(6) فيما يختص بعلاقات الإنسان وسلوكه لاتوجد قواعد علمية مطلقة لقياسها ولكن حينما يضع الناس لأنفسهم هدفا - مثل العيش فى حياة سعيدة ضمن مجتمعات إنسانية - فإن العلم يستطيع دراسة سلوكهم والظروف التى يعيشون تحتها والأنماط العامة المتوقعة لردود أفعالهم كما يمكن - وإلى حد ما - الحكم عما إذا كان الإنسان يتحرك فى اتجاه الهدف المرسوم أو أنه يحتاج إلى تغيير فى الوسائل المتبعة للوصول إلى ذلك الهدف. وبصفة عامة إذا استطاع الناس تحديد أهدافهم واتفقوا على بعض معايير القياس، فإن العلم يمكن أن يساهم فى تحقيق هذه الأهداف أو بعضها دون تقديم أى ضمانات لذلك.
(7) إن مقدرة الإنسان على قبول الأشياء أو رفضها مقدرة متساوية فأى شيء يمكن قبول فعله - أو التفكير فيه - أو الاعتقاد به - أو حتى الشعور نحوه يمكن رفضه بنفس القدرة، وذلك يعطى الإنسان مقدرة المراجعة والاختبار والتغيير بهدف التحسين والتطوير. إن قدرات القبول والرفض وقدرات فى التفكير متعدد المستويات (التفكير مثلا) هى التى تسلح الإنسان بقدرات التغيير، أما المنهج العلمى فهو القادر على توجيه حركة التغيير لتكون إيجابية متطورة.
العلاج النفسى بالمنطق (الترشيد الحفـزى) :
تعتمد طريقة العلاج بالمنطق على المنهج العلمى لاستئصال المعتقدات الوثقانيات التى تهزم الذات Self- defeating dogmas وأساس هذه الطريقة هو أن أى مؤثر فى حياة الإنسان لا يتسبب مباشرة وبصفة أساسية فى التوابع النفسية قبل المرور على معبر المعتقدات الشخصية، وعليه فإن الإنسان يتسبب دون غيره أو الأحداث المحيطة به فى حالته النفسية المترتبة على هذه المؤثرات أو الأحداث أو العلاقات. فإذا ما كانت معتقدات الإنسان منطقية كان رد الفعل الطبيعى هو بعض المشاعر السلبية المعتدلة مثل الحزن والأسف والإحباط وإذا كانت المعتقدات غير منطقية تظهر حدة الاضطرابات النفسية ويعانى الإنسان من القلق والاكتئاب والبؤس واليأس والرعب ورغبة الانتقام والقتل... إلى آخر هذه الأعراض المرضية. كل ذلك يدل على أن الذى يسبب الاضطرابات النفسية الحادة ليست هموم ومشاكل الحياة، فالغالبية تتعرض لهذه الهموم ولكن قلة شاذة قد تعانى من اضطرابات نفسية حادة تصل إلى حد العنف مع النفس والآخرين والمجتمع. إن الذى يسبب عنف وحدة المشاعر هو مرآة المعتقدات غير المنطقية المشروخة حينما تسقط عليها هموم ومصاعب الحياة التى تعتبر من سمات العصر ولا يمكن تجنبها كلية. والمعتقدات غير المنطقية هى التى تضيف إلى رغبات الإنسان وتفضيلاته استبداد المفروض والواجب والمطلق والأكيد تحت كل الظروف وفى كل الأوقات فى انعزال تام عن المنطق والحقائق وواقع الحياة. وطريقة العلاج بالمنطق تعتمد على مجادلة هذه المعتقدات حتى نتخلى عنها ونستبدلها بفلسفة جديدة فى حياتنا. والمنهج العلمى هو الأسلوب الذى يمكن الإنسان من منطقة حياته فى عالم غير منطقي، كما أنه الأسلوب الذى يجعل الإنسان سعيدا على قدر الإمكان تحت أصعب ظروف الحياة. وتفيد طريقة العلاج بالمنطق والمنهج العلمى فى حفز الإنسان على العمل بفعالية لتغيير بعض الظروف القاسية التى تواجهه فى رحلته مع الحياة، وهذه الطريقة لا تتعارض مع المنافسة والكفاح من أجل روعة الإنجاز فهى تؤيد كمال الأفعال ولا تؤيد كمال الفاعل - وذلك لأن كمال الإنسان شيء غير منطقى ويتعارض مع حقيقة كونية تؤكدها حركة الحياة وهى أن كل إنسان خطاء والكمال لله وحده.
العلاج النفسى بالمنطق يستغل بعض قدرات الإنسان الموروثة ويعتمد على حقيقتين هامتين أثبتتهما حياة الإنسان على الأرض. الأولى هى التفكير المتعدد المستويات الذى يعطى الإنسان مقدرة مراجعة أفكاره وأفعاله ومعتقداته والحكم عليها، والثانية هى أن مقدرة القبول والرفض متساوية، وعليه فما يمكن قبوله يمكن رفضه - وتتكامل هذه القدرات لتعطى الإنسان قدرة جديدة وهى إرادة التغيير - أما المنهج العلمى فهو الذى يجعل هذا التغيير يتمشى مع الحقائق والمنطق ويتناغم مع الواقع وبذلك يكون التغيير دائما لصالح الإنسان. إن القدرات سابق الكلام عنها هى التى تجعل الإنسان يختار معتقداته وبالتالى انعكاساته النفسية لمشاكل وصعاب الحياة. والتفكير المتعدد سلاح ذو حدين فقد يمكن الإنسان من مراجعة واختبار معتقداته وتطوير رغبته لرفض غير المنطقى منها والتخفيف من حدة اضطراباته النفسية، ولكنه أيضا قد يتسبب فى تعقيد المشكلة وظهور درجات ومستويات أخرى من الاضطرابات النفسية، فقد يلوم الإنسان نفسه على مشاعره الأولية وأعماله وأفكاره ويقع فى مشاكل نفسية ثانوية مثل الاكتئاب من الاكتئاب، والخوف من الخوف، والقلق من القلق وهكذا، أو قد يضطر للبحث عن وسائل وهمية للتخفيف من حدة اضطراباته النفسية مثل إدمان المخدرات وبذلك يقع فى مشكلة من نوع آخر وتظل المشكلة الأساسية قائمة. كل ذلك يدل على أن الإنسان هو المالك لمعتقداته والمسيطر الحقيقى على سلوكه والمسئول الأول والأخير عن مشاعره وبذلك فلا يجب أن يلومن إلا نفسه!.
وفى حالة تكامل قدرات الاختيار والرفض والتفكير متعدد المستويات والمنهج العلمى فإن الإنسان يصبح قادرا على تغيير معتقداته غير المنطقية والتى تتسبب فى الاضطرابات النفسية الحادة إلى معتقدات منطقية وبالتالى تتحول مشاعره إلى الاعتدال المحتمل - حتى وإن كانت هذه المشاعر سلبية. والمشاعر السلبية المعتدلة تساعد الإنسان فى التعبير عن عدم رضاه عن أحداث الحياة غير السارة، كما قد تحفزه للعمل على تحوير أو تغيير بعض الأوضاع لصالحه من أجل مستقبل أكثر سعادة. أما المشاعر السلبية الحادة فلا تقف عند حد إصابة الإنسان بالأمراض النفسية، ولكن غالبا ما تعوق قدراته فى التعامل مع مشاكل الحياة وإرادته فى تغييرها لصالحه.
دور المنهج العلمي :
وإذا ما قبلنا المنهج العلمى كوسيلة للقضاء على الاضطرابات النفسية فكيف يمكن اتباع القواعد العلمية فى مجادلة معتقدات الإنسان المسئولة عن هذه الاضطرابات؟ يمكن أن يأتى ذلك من خلال الإجابة على بعض الأسئلة المحددة :
(1) هل المعتقد واقعى ويستمد واقعيته من حقائق ثابتة؟
(2) هل يتفق هذا المعتقد مع المنطق؟
(3) هل يمكن إثبات خطإ المعتقد بأى وسيلة؟
(4) هل يعتمد المعتقد على وهم "الاستحقاق" و "عدم الاستحقاق"؟
(5) هل يمكن التخلى عن هذا المعتقد أو العمل ضده، وما هى الآثار المترتبة على ذلك؟
والإجابة على هذه الأسئلة لا تمكن الإنسان فقط من الحكم على منطقية معتقداته، ولكنها تساعده أيضا فى تطوير رغبته وإرادته لتغيير هذه المعتقدات إذا ما ثبت أنها لا تتفق مع المنطق ولا تتلاءم مع الواقع ولايوجد ما يدعم صحتها - وبصفة عامة فإن المعتقدات المنطقية هى التى تصوغها الاحتمالات غير اليقينية القابلة للتغيير. والمتعقدات اليقينية النابعة من استبداد الرغبات لا تسمح بأى مساحة للابتعاد عن أنماط محددة وقوالب مرسومة تقتل خيارات الإنسان وتجعله يصطدم بواقع أليم قد يفرض عليه نوعا من الغربة المكانية أو الهجرة الزمانية. وبذلك فإن هذا النوع من المعتقدات يتسبب فى الأمراض النفسية على المستوى الفردى والأمراض الاجتماعية على مستوى التفاعل الإنساني. فعلى سبيل المثال إذا تبنى الإنسان معتقد "وجوب العدالة المطلقة" على الأرض فذلك يجعل كل توقعاته رومانسية وغالبا ما يفاجأ ببعض مظاهر الحياة التى تتنافى مع هذا المعتقد، وحينئذ فإما أن يغير الإنسان معتقده أو يظل ناقما على الأوضاع والناس والمجتمع، ويدخل بذلك مصيدة الأمراض النفسية الحادة. كذلك فإذا تبنى أى إنسان معتقد يقضى بصحة معتقداته الدينية دون سواها مع العمل على إلزام الآخرين بعدم قبول معتقدات بديلة فإنه بذلك يدخل مصيدة أخرى لا تقل خطورة وهى مصيدة أمراض التعصب والتطرف الدينى التى قد يكون الإرهاب أحد أعراضها. كل ذلك يؤكد على أن المنهج العلمى هو الأسلوب الوحيد لإدارة النفس بفعالية، وبصفة عامة فإن هذا المنهج يمكن الإنسان من التخلص من المعتقدات غير المنطقية التى تعتمد على استبداد الواجب والمفروض والأكيد والمطلق وإلحاح الأوامر وسيطرة واستبداد الرغبات. إن هذا المنهج هو السبيل الوحيد لتغيير المعتقدات غير المنطقية عن النفس والآخرين والعالم من حولنا وتهيئة هذه المعتقدات للتغيير حسب ديناميكية الواقع وحقائقه القائمة والمنطق الفطرى السليم.
الرغبات المستبدة :
هناك رغبات معتدلة ومنطقية مثل :
(1) إذا ما أردت قراءة هذا الكتاب فيجب شراؤه أو استعارته.
(2) إذا أردت الحصول على درجة جامعية فيجب النجاح فى المقررات المطلوبة كشرط الحصول على هذه الدرجة. وهذه الرغبات واقعية وليست مستبدة وإنما أخذت شكل الواجب والمفروض وذلك لأنه لا يمكن أن تتم إلا من خلال هذا المفروض والواجب، فالرغبة الأساسية بها اعتدال والثانية تصنع الظروف التى يمكن من خلالها تحقيق الرغبة الأولي، وعليه فهى رغبات غير مستبدة وتساعد الإنسان على إدراك حركته وتوجهها. إلا أن بعض الرغبات المستبدة - غير المقيدة بشروط والتى يعوزها المنطق - تشكل معتقدات تهزم الإنسان. ويمكن تغيير المعتقدات الواقعية السابقة إلى معتقدات غير منطقية (1) حتى إذا لم أستطع الحصول على نسخة من هذا الكتاب فيجب على قراءته، (2) على الرغم من أننى لم أجتز أى مقرر من المقررات المطلوبة كشرط الحصول على شهادة جامعية فيجب عليهم منحى هذه الشهادة لأننى فى حاجة ماسة إليها وأستحقها.
وبصفة عامة هناك ثلاث رغبات مستبدة فى حياة الناس وقد يكون من المفيد إلقاء بعض الضوء عليها حيث إنها هى المسئولة بصفة أساسية عن صياغة المعتقدات غير المنطقية والتى تعتبر مسئولة بشكل أساسى ومباشر عن الاضطرابات النفسية:
(1) يجب أن أكون عند حسن ظن المسئولين حتى أنال رضاهم - وبدون ذلك فسوف أصبح إنسان تافه وعديم القيمة. وهذا المعتقد يولد مشاعر القلق - الاكتئاب - والعداء مع النفس. ذلك بالإضافة إلى أن الخوف من عدم الحصول على هذا الرضا قد يجعل الإنسان يتجنب علاقاته مع الآخرين.
(2) يجب أن يعاملنى الآخرون باحترام ولياقة وإذا عاملنى أحد دون ذلك فهو حقير أو أننى لست أهلا لهذا الاحترام. وهذا المعتقد يجعل الإنسان معرض للغضب الحاد والعنف والعدوانية التى تصل إلى حد الانتقام من النفس والغير فى صور متعددة.
(3) يجب على الحياة أن تكون مريحة وخالية من المصاعب كما يجب أن تمنحنى ما أريد - وإلا أصبحت لا تطاق ولا يمكن أن أكون سعيدا فيها. وهذا المعتقد فيه مبالغة وتعميم ويتسبب فى مشاعر عدم التحمل المعروفة وأهمها الغضب والاكتئاب، كما قد يتسبب فى إصابة الإنسان بأمراض التأجيل والمماطلة وإكراه الغير وكذلك الإدمان.
وكل هذه الرغبات المستبدة تتسبب فى قلق الإنسان من حدوث ما قد يتعارض مع هذه المعتقدات. كذلك وبعد الاصطدام بالواقع وحدوث ما يتعارض بالفعل مع هذه المعتقدات، فإن سلسلة من الاضطرابات النفسية تصيب هذا الإنسان وتعقد حياته ويصبح بذلك غير قادر على حل مشاكله العملية. وبصفة عامة لا يمكن للإنسان حل مشاكله العملية إلا إذا استطاع أولا حل مشاكله النفسية المترتبة على المشاكل العملية، وذلك يوضح القيمة الحقيقية لطريقة العلاج النفسى بالمنطق كما يوضح الأهمية العظمى لاستخدام المنهج العلمى أسلوبا لحياتنا.
المجادلة النشطة :
ليس هناك من حل للاضطرابات النفسية الحادة إلا مجادلة المعتقدات المستبدة وغير المنطقية، والتخلى عنها وتغييرها إلى رغبات واقعية مرنة وإن كانت فى نفس الوقت قوية. وهنا يجب أن تكون المجادلة نشطة وقوية ومتكررة كما يحاول الإنسان أن يتصرف بأسلوب يجعل سلوكه مناقضا لهذه المعتقدات إلى أن يتم التخلص منها، وقد يأتى ذلك غير مريح فى باديء الأمر ولكن حينما يتخلص الإنسان من معتقداته غير المنطقية من خلال المجادلة القوية المتكررة - تفكيرا وفعلا - فإنه سوف يستريح من الاضطرابات النفسية التى تسببها هذه المعتقدات كما سوف يستخدم نفس الأسلوب للتخلص من الاضطرابات المماثلة. والعلم يمنح الإنسان مقدرة استخدام السببية والمنطق والحقيقة فى مجادلة المعتقدات والتخلى عن المستبد منها والذى قد يضع الإنسان أمام خيار تفصيل الواقع على معتقداته الشخصية، وهو الخيار المستحيل الذى يتسبب فى العديد من الاضطرابات النفسية. أما الخيار الآخر والذى يفرضه المنهج العلمى فيقضى بتفصيل هذه المعتقدات على الواقع وذلك يستوجب تغييرها إلى ما يمكن أن يطلق عليه "المعتقدات الواقعية" والعلم يلقى بثلاث أسئلة هامة لمجادلة معتقدات الإنسان المستبدة والتى يسيطر على سياقها الواجب والمفروض تحت كل الظروف وفى جميع الأوقات.
(1) ما الدليل على وجوب نجاحك ورضا المسئولين عنك؟
(2) لماذا يجب على الناس معاملتك باحترام ولياقة؟
(3) أين ومتى كتب على هذه الحياة أن تكون مريحة وخالية من الصعاب؟
والحقيقة أن الإجابة السلبية على كل الأسئلة السابقة هى أكبر دليل على عدم منطقية المعتقدات التى تعتمد على استبداد المفروض الواجب. وللتخلص مما تسببه هذه المعتقدات من اضطرابات نفسية فلابد من التخلى عن استبداد هذه الرغبات وتحويلها إلى تفضيلات واقعية مرنة، فكل منا يرغب فى أن ينال رضا المسئولين، وكلنا يرغب فى أن يعامله الآخرون باحترام ولياقة، وكلنا يعلم أن الحياة مليئة بالصعاب، وكنا نتمنى ونرغب ألا تكون كذلك. والمدقق لهذه الرغبات يجدها معتدلة غير مستبدة ليس فيها وجوب، وعليه فيستطيع الإنسان الذى يحمل هذه الرغبات أن يتحمل تبعات عدم تحقيقها بمشاعر سلبية معتدلة. وهذا التحول فى المعتقد يجعل الإنسان يستقبل مشاكل الفشل وعدم القبول والمعاملة غير الكريمة ومصاعب الحياة بمشاعر سلبية غير مرضية لا تعوقه عن التعامل مع هذه الظروف بأسلوب أكثر فعالية. إن تكرار المجادلة والعمل ضد المعتقدات غير المنطقية هو الوسيلة الوحيدة للتخلص من هذه المعتقدات، كما أن هذا التكرار - باستخدام المنهج العلمى حتى تصبح المجادلة الطبيعة الثانية فى حياة الإنسان - غالبا ما تزود الإنسان ببعض العضلات النفسية التى تقيه من الآثار المترتبة على مشاكل ومصاعب الحياة.
ليس هناك طريق سحري لتغيير الذات. لن يستطيع الإنسان ذلك من خلال التفاؤل والأمل - لن يستطيع ذلك بالصلاة والابتهالات - لن يستطيع ذلك من خلال دعم ومساعدة الآخرين وحبهم، كما لا تستطيع كتب علم النفس أو المتخصصين فى هذا المجال بالقيام بعمليات التغيير نيابة عن الشخص نفسه. كل هذه الأساليب يمكن أن تساعد الإنسان على الشعور بالراحة المؤقتة - البعض قد يساعد الإنسان على معرفة ماذا يفعل لاستجلاب الشعور بالراحة، ولكن فى النهاية الإنسان هو الوحيد القادر على تغيير ذاته من خلال العمل المتواصل وعدم التواكل. إن العمل المستمر واستخدام المنهج العلمى أسلوبا لحياتنا هو الطريق الوحيد للتخلص من اضطراباتنا النفسية ورفع درجة استعدادنا للنكسات التى يمكن أن ترتد من خلالها مثل هذه الاضطرابات. والمنهج العلمى سهل فإذا ما تعرض الإنسان للاضطرابات النفسية فعليه أولا أن يبحث عن الرغبات المستبدة والمعتقدات غير المنطقية التى تستقبل صعوبات الحياة ومشاكلها وتتسبب فى هذه الاضطرابات. وإذا فشلت فى الوصول إلى أصل هذه المعتقدات فيمكنك البحث عن مساعدة الآخرين من أقارب أو أصدقاء أو زملاء عمل أو أطباء نفسيين.
استنتاج :
إن الواقعية تستوجب استخدام المنهج العلمى كأسلوب لمناقشة الأفكار والمعتقدات والسلوك من أجل الحفاظ على توازن المشاعر الإنسانية لقد أثبت علماء النفس أن هموم ومشاكل ومصاعب الحياة ليست مسئولة بصفة أساسية وبشكل مباشر عن الحالة النفسية للإنسان، حيث إن هذه الحالة تتحدد من خلال المعتقدات الشخصية، فإذا ما كانت غير منطقية كانت المشاعر حادة معتلة. وعليه فإن علاج الاضطرابات النفسية يستوجب التعامل مع المعتقدات قبل التعامل مع ظروف ومشاكل الحياة حيث قد يستحيل أحيانا تغيير الواقع. وهناك بعض القدرات الموروثة والتى تمكن الانسان من تغيير المعتقدات مثل التفكير المتعدد والذى يقوم على مراجعة واختبار هذه المعتقدات والحكم عليها، وكذلك قدرات القبول والرفض والتى تنمى إرادة التغيير عند الإنسان أما المنهج العلمى فهو القادر على إدارة هذا التغيير بطريقة تجعله يتلاءم مع الحقائق والمنطق والواقع وتكون النتيجة تغيير المعتقدات غير المنطقية المستبدة إلى رغبات واقعية وهذا التغيير يستتبعه تغيير فى استجابة الإنسان لمشاكل ومصاعب الحياة وظروفها التى تقف عائقا ضد تلبية رغباته وتحقيق أهدافه. وتعتبر طريقة العلاج النفسى بالمنطق طريقة سهلة حيث تستغل قدرات الإنسان وتحمله مسئولية رفض الانصياع لتطرف وحدة مشاعره السلبية التى لا يجنى من ورائها سوى الإبقاء على المشاكل العملية وإضافة مستويات أخرى متراكبة من المشاكل النفسية. كما أن استمرار التدريب على هذه الطريقة يعمل على بناء عضلات نفسية قوية تقى الإنسان من الاضطرابات النفسية المماثلة.
المراجع الهامة :
Caputo، J.D. (1997). Deconstruction in a Nutshell : A Conversation with Jacques Derrida. Fordham University Press، NY، U.S.A.
Ellis، A. & Harper، R.A. (1975). A New Guide to Rational Living. Wilshire Books، North Hollywood، Ca، U.S.A.
Ellis، A. & Grieger، R. (Eds.). (1977). Handbook of Rational-Emotive Therapy. Vol. I. Springer، NY، U.S.A.
Ellis، A> & Grieger R. (Eds.). (1986). Handbook of Rational-Emotive Therapy. Vo.. II. Springer، NY، U.S.A.
Ellis، A. (1988). How to Stubbornly Refuse to Make Yourself Mis-Inc.، Secaucus، NJ، U.S.A.
نشرت في مجلة " الإنسان والتطور "
عدد 60 يناير 1998
د/ يحي عبد الحميد