حدود العلاقة المهنية في العلاج النفسي
لقد طرأ على العلوم النفسية تقدمٌ كبيرٌ في العقدين الأخيرين مما مكن المختصين من أطباء وعلماء نفس من معالجة بعض الحالات التي لم يكن بالإمكان علاجها سابقاً. إلا أن ثمة مشكلة نتجت من هذا التقدم وهي اعتماد بعض المعالجين على اختزال الاضطرابات النفسية المعقدة والمتعددة الأسباب وتفسيرها بشكل مخلّ. خاصة و أن ذلك صاحبه أيضاً إهمال للدور الإنساني في العلاقة العلاجية الذي لم تستطع التقنيات الحديثة الاستغناء عنه.
و مع أن القوانين و الأخلاق الطبية لا تعفي المريض نفسه من مسؤوليته نحو نتائج العلاج ، إلا أن المجتمع يلقي دائماً على الطبيب أو المعالج - بمجرد حصوله على المؤهل العلمي والترخيص بالعمل - مسؤولية الراعي الشرعي للعملية العلاجية ، بشكل يلغي إرادة المريض ودوره نهائياً.
لكي نلقي الضوء على العلاقة بين المعالج (سواء كان طبيباً نفسياً أو مختصاً في علم النفس العيادي) من جهة و المتعالج أو المريض من جهة أخرى فإنه يحسن بنا أن نتطرق لبعض التعريفات:
• المهني و أخلاق المهنة:
يمكن تعريف المهني أنه الشخص المتعلم الذي أتقن فناً معيناً يحتاجه المجتمع. ولكن إتقان الفن أو الصنعة ليس كافياً ، إذ لا بد أن تكون ممارسة هذا الفن في إطار نظام أخلاقي يحكم أصحابه. أما هذا النظام فقد يكون مكتوباً على شكل تشريعٍ مثل المبادئ الأخلاقية للجمعية الطبية الأمريكية ، و قد يكون عرفاً أخلاقياً غير مدونٍ يحكم فيه على كل حادثة في حينها كما في كثير من دول العالم الثالث.
• الإطار العلاجي و حدود العلاقة المهنية:
يتكون التفاعل الاجتماعي عموماً في إطار من التوقعات المنطوقة أو غير المنطوقة التي تعطي للموقف الاجتماعي معناه ومدى ارتباط الأطراف المشاركة فيه.
ويمكن أن يتضح ذلك عند الحديث عن العلاقة العلاجية ، حيث يذهب المريض إلى المعالج ويشرع في التفاعل معه في إطار تصوره له كمختص في مجاله ، قادرٍ على مساعدته. لكن توقعات بعض المرضى قد تكون غير واقعية ، مثل الرغبة في الوصول إلى السعادة أو الحصول على الحب أو الخلاص النهائي من الألم والمعاناة. و هذه التوقعات غير المحددة أو اللاعقلانية تنتهي بلا شك إلى الإحباط وخيبة الأمل.
كذلك فإن المعالج النفسي له هو الآخر إطاره الاجتماعي الذي يحكم تعامله مع المريض. هذا الإطار يضمن السير في الخطة العلاجية بدون مشكلات ، مثلما تضمن غرفة العمليات للجراح سير العملية الجراحية بأمان.
و في حين أن بعض المرضى قد يرى أن تخطي المعالج للإطار الاجتماعي في العلاقة المهنية نوعاً من الاهتمام الشخصي والرعاية الخاصة إلا أن البعض الآخر قد يرى فيه دليلاً على عدم كفاءة المعالج أو أهليته أو حتى سلامة عقله. وفي كلتا الحالتين يتضح مدى خطورة هذا الأمر وتأثيره السلبي على مسيرة العلاج.
و الإطار الاجتماعي للعلاقة العلاجية يحتم على المعالج الالتزام بعدد من الضوابط منها:
1. التعامل المسئول في العلاج.
2. احترام استقلالية المريض و ذلك من خلال إعلامه بفائدة الأسلوب العلاجي المتوقعة ومخاطره المحتملة ، وعدم إفشاء سره.
3. عدم استغلال مشاعر المريض حاجاته الجنسية.
4. رفض محاولات المريض للانزلاق في ذلك بتوضيح الطبيعة المرضية لهذا السلوك دون اتهامه بفساد الأخلاق واستغلال ذلك لإظهار الورع والتقوى.
.................................
بعد أن ذكرت في الحلقة السابقة تعريف المهني وتحدثت عن أخلاق المهنة والإطار العلاجي و حدود العلاقة المهنية أكمل اليوم الحديث عن:
• إنتهاك الحدود المهنية:
يمكن تعريف إنتهاك الحدود المهنية في الطب بأنه أي تجاوز قد يتعارض مع الهدف الأساسي لتوفير الخدمة العلاجية ، أو قد يضر بالمتعالج أو بالمعالج أو بالعملية العلاجية نفسها.
وبسبب طبيعة العلاج النفسي فلا بد من دخول كل من المعالج والمريض في فضاء الآخر ، مما يمكن اعتباره تجاوزاً لحدود العلاقات الاجتماعية العادية ، لكنه لا يعد انتهاكاً للحدود المهنية إلا إذا أضر بالمعالج أو المتعالج أو بسير العلاج. لكن المشكلة تكمن في أن هذا الضرر قد لا يكون واضحاً ، أو قد يحدث في مرحلة متأخرة من العلاج مما يجعل من الصعب تحديد مدى أثر بعض التجاوزات على طرفي العلاج أو العملية العلاجية.
كما قد يجد بعض المرضى صعوبة في التعبير عن هذا الضرر ، لأن تصرفات المعالج المخلّة ، هي على شاكلة إستغلالات حصلت لهم في علاقات شخصية سابقة و لم يكن لهم القدرة على التعامل معها بالشكل السليم.
كذلك فإن بعض التجاوزات قد تبدو بسيطة أحياناً مثل صراع المصالح بين المعالج و المتعالج ، لكنها يمكن أن تؤدي إلى شعور الأخير بعدم الثقة و الأمان اللازمين لنجاح العلاج.
من أمثلة بعض التجاوزات ما نشرته بعض الدراسات التي وجدت أن 19% من المعالجين النفسيين إرتبطوا بعلاقات شخصية مع مرضاهم بعد إنتهاء فترة العلاج ؛ و أن 17% منهم أخبروا المرضى ببعض خصوصياتهم لكسب إعجابهم ؛ كما تعاون 17% منهم مع مرضاهم لخداع طرف ثالث مثل شركات التأمين.
و حسب مايرى بعض الباحثين ، فإن هذه التجاوزات غير الجنسية قد تكون مقدمات لأخرى جنسية و هو ما يعد إنتهاكاً صارخاً للعلاقة العلاجية. و قد وجدت دراسات أخرى ، أن 7.5% من المعالجين و 2.5% من المعالجات قد إنخرطوا في علاقات جنسية مع مرضاهم.
والحقيقة أنه يمكمن التنبؤ ببعض الإنتهاكات الخطيرة ورؤية إرهاصاتها قبل حدوثها فعلاً من خلال ملاحظة الخلل في إطار العلاقة العلاجية ، الذي ينتهي حتماً بإنتهاك لحدود هذه العلاقة.
و من أمثلة بعض التصرفات التي تقود لمثل هذا الخلل ما يلي:
1. محاولة المعالج تبادل المواقع و الأدوار مع المريض.
2. تخويف المعالج للمريض لضمان سكوته.
3. وضع المعالج للمريض بين خيارات كلها مؤلمة.
4. إستغلال المعالج لإمتيازه المهني و سلطته و معاملة المريض و كانه ملك من أملاكه.
كما أن هناك أسباباً مشتركة لأغلب إنتهاكات العلاقة المهنية منها:
1. الإجهاد النفسي للمعالج نتيجة ظروفه الخاصة.
2. عدم كفاءة المعالج.
3. أن يكون المعالج نفسه مضطرباً نفسياً.
4. نسيان الهدف الأصلي للعلاج وفقدان الوجهة.
5. عدم إلتزام المعالج بالمنهج السليم حسب المدرسة العلاجية المطبقة.
6. إحساس المعالج بالنرجسية و التميز.
7. محاولة المعالج تحويل العلاقة المهنية إلى علاقة شخصية و إشاعة جوٍ من المساواة الخادعة بينه و بين المريض.
......................................
بعد أن عرفنا في حلقات سابقة المعنى العلمي لمصطلح "المهني" وتعرفنا على أخلاق المهنة بشكل عام انتقلنا للحديث عن الإطار العلاجي الذي يحكم العلاقة بين المعالج والمتعالج في العلاج النفسي و بوصفها علاقة مهنية.
والإطار العلاجي هدفه حماية المتعالج و ضمان إستمرار تحسنه. أما تشكيل هذا الإطار بشكله الصحيح و التمسك به فهو مسئولية المعالج قولاً و عملاً. و لكي يقوم المعالج بذلك على الوجه المطلوب فلا بد من مراعاة أمور عدة تساهم في رسم حدود العلاقة العلاجية المنطقية. من هذه الأمور:
الثبات: ثبات البيئة العلاجية و إنضباطها من الأمور المهمة للمتعالج ، فهي توازي أهمية البيئة المنزلية بالنسبة للطفل. و هناك بعض الوسائل المعينة على تحقيق هذا الثبات منها: الإتفاق مع المتعالج على خطة العلاج و أسلوبه و مدته ، وتشجيع الوضوح و الصدق و التعاون. كما أنه من المهم الإلتزام بالوقت المحدد كاملاً والحد من المقاطعات والمشتتات في عيادة المعالج أثناء المقابلات العلاجية. كما ينبغي على المعالج إخطار المتعالج قبل الغياب عن الموعد بوقتٍ كافٍ وتوفير التغطية اللازمة من قبل معالج آخر عند الغياب أو الإجازات والسماح للمتعالج بتوجيه ملاحظاته و إنتقاداته للمعالج او العلاج او البيئة العلاجية.
تجنب العلاقات المزدوجة: يقصد بذلك عندما يرتبط المعالج بالمتعالج في علاقتين مختلفتين ، مثل علاج الطبيب النفسي لصديق أو قريب أو علاج نفس المتعالج بمفرده في جلسات فردية و مع أسرته في علاج أسري على يد نفس المعالج . كذلك فإن الدخول في علاقة مع طرف ثالث مثل رب العمل أو الزوج قد يحد من تطور العلاقة العلاجية المثلى مما يضر بالمتعالج ، خاصةً إذا كان هناك تدخل مباشر في مدة العلاج أو أسلوبه أو مواعيده.
الإستقلالية و الحياد: ذلك مطلب رئيس في العلاقة المهنية لأنه يشجع المعالج على التطور و الإعتماد على نفسه و يرفع من معنوياته. كما أنه يوحي للمتعالج بأهليته و مسئوليته عن جسده و حياته و مشاكله. و مما يدعم ذلك أخذ موافقة المتعالج الخطية على الوسائل العلاجية التي تستدعي ذلك ، و طلب موافقته شفهياً على العلاج بعد علمه بفوائده و مضاره المتوقعة و الخيارات المتاحة ، و تشجيع المريض على المشاركة الفاعلة في العلاج. أما التصرفات التي تتعارض مع مبدأ الإستقلالية و الحياد فمنها: إسداء النصح للمتعالج في أمور غير عاجلة أو التأثير على المتعالج في أمور لا علاقة لها بصحته أو الوقوف ضد رغبة المتعالج في إنهاء المعالجة أو الإنتقام منه أو فرض القوة عليه بأي شكل من الأشكال.
التعويض المادي النزيه: غالباً ما تكون الخدمة التي يقدمها المعالج ، مقابل تعويض مادي من المتعالج مباشرة أو من جهات أخرى. و يجب أن لا يتوقع المعالج من مريضه تعويضاً غير قيمة الكشف و العلاج ، التي يجب أن تكون ثابتةً و محددةً. أما الإستفادة من خبرة المعالج ووقته فهي مسؤولية المتعالج. ولكن المسئول عن التعويض ، في بعض الحالات قد يكون طرفاً ثالثاً مثل شركات التأمين أو قد يتقاضى المعالج مرتباً ثابتاً من جهة عمله ، وفي هذه الحالة يجب أن لا يتواطأ المعالج مع أي طرف آخر ضد مصلحة المتعالج بعمل مالا لزوم له أو التقصير في ما هو من مصلحة المتعالج.
و المبدأ المتعارف عليه في التعويض عن الخدمات النفسية هو "المال مقابل الوقت" و هو يختلف عن المبدأ المعمول به في الخدمات الصحية الأخرى التي تعتمد على القيام بإجراءٍ معين مثل العمليات او الفحوصات حيث يقوم هذا المبدأ على أن "المال مقابل الإجراء". وفق مبدأ المال مقابل الوقت فإن المعالج من حقه أن يطلب من المتعالج تعويضه مباشرة عن الجلسات التي غاب عنها و لم يعتذر عن حضورها قبل موعدها بوقت كاف. غير أن ذلك قد لا يكون مقبولاً ممن تعودوا على التعويض مقابل الخدمة الإجرائية التي يقوم بها المعالج طال وقتها ام قصر. على اية حال فكلا المبدأين أخلاقي و لا غبار عليه.
و أخيراً فهناك تصرفات لا خلاف على أنها غير أخلاقية مثل: التزوير في المستندات ، قبول الهدايا و الرشوات ، إقتسام مبلغ العلاج مع المتعالج أو طرف آخر ، التواطؤ مع المريض أو أي طرف آخر.
السرية: المتعالج هو فقط صاحب الحق في إفشاء معلوماته و أسراره. أما المحافظة على سرية هذه المعلومات فيعد من أهم واجبات المعالج التي منها ايضاً إخطار المتعالج بحدود مبدأ السرية و مناقشة الإستثناءات من ذلك إذا دعت الحاجة. و للحفاظ على هذا المبدأ ينبغي أن لا يدلي المعالج بأي تقرير أو خبر عن حالة المتعالج قبل الحصول على إقرار منه يسمح له فيه بإعطاء معلومات عنه (إذا لزم الأمر). أما إذا كان المتعالج طفلاً أو مراهقاً فإن مناقشة الحفاظ على السرية معه أمر ضروري لتطمينه مع الحصول على الإقرار من وليّه (إن لزم الأمر). كما ينبغي عدم مناقشة الحالات في الأنشطة العلمية دون تحويرٍ في المعلومات و طمسٍ للهوية. كذلك ينبغي أن لا يناقش المعالج تفاصيل وشخوص الحالات التي يشاهدها مع أسرته.
اخفاء خصوصيات المعالج: لحماية كل من المعالج و المتعالج من مزلق تبادل الأدوار فينبغي على المعالج عدم الإفصاح عن خصوصياته التي لا داعي لها. ذلك أن بعض المتعالجين قد يرى في ذلك نوعاً من الإصطفاء أو حتى محاولة الإغواء. كذلك فإن مثل هذا المسلك قد يكون بادرة لعلاقة جنسية مع المتعالج.
ومع ذلك فإنه لا مانع من الإفصاح عن معلومات خاصة مثل مؤهلات المعالج و خبراته ، أو طريقته في العلاج ، إذا كان ذلك سيطمئن المتعالج و يعزز العلاقة العلاجية. كما أنه لا مانع من أن يستشهد المعالج ببعض أساليبه الشخصية في التعامل مع بعض المشكلات الحياتية بقصد التوعية و التعليم.
التحكم بالذات: يقصد بذلك منع المعالج نفسه من الحصول على أي متعة مع المتعالج من خلال الملامسة أو أي سلوك آخر يتخذ شكلاً جنسياً مثل الحضن أو التقبيل. و يجب ان يكون المصدر الحقيقي لمتعة المعالج هو قيامه بعمل يرضي الله سبحانه وتعالى ويدر عليه دخلاً جيداً ، و يحقق له ذاته من خلال إبداعه و تميزه فيه. أما أي عمل آخر مثل اللمس أو قبول الهدايا أو العلاقات الإجتماعية الخاصة أو الجنسية فإنها تتعارض مع مبدأ الحفاظ على الحدود الشخصية للمتعالج و تنتهكها. ويستثنى من ذلك ما يحتاج الطبيب لعمله مثل الكشف و قياس الضغط او العمليات العلاجية كالجلسات الكهربائية و نحوه .
حماية الذات: من المهم أن يحترس المعالج لنفسه و أن يناقش أي سلوك إستغلالي قد يبدر من المتعالج بمجرد حدوثه . و من أمثلة هذه السلوكيات: إطالة المتعالج للجلسة العلاجية بدون داعٍ ، الإتصالات الهاتفية المتكررة أو التي يقوم بها المتعالج في وقت متأخر مثلاً. كذلك من أمثلتها أخذ شيء من محتويات العيادة أو التلكؤ في دفع قيمة الكشف أو الإقتراب من الفضاء الشخصي للمعالج.
السماح بتكرر هذه التصرفات وشعور المعالج بالحرج من مناقشتها مع المتعالج قد يؤدي إلى تفاقمها مما قد يقود لإنتهاكٍ لا أخلاقي لحدود العلاقة العلاجية.
مؤشرات الإنزلاق في علاقة غير مهنية:
1. تأخر المعالج في الحضور للقاء المراجع
2. تغيير المعالج للأسلوب العلاجي فجأة في منتصف الطريق ، مثل الإنتقال من المعالجة الفردية إلى الأسلوب الزوجي و إدخال الزوجة في العلاج
3. إسداء المعالج لنصائح في أمور تخص المريض لا علاقة لها بالعلاج
4. تعامل المعالج مع المتعالج كما لو كانا صديقين شخصييين
5. قبول المعالج هدايا و هبات من المتعالج
6. شعور المعالج بالإستياء من ضرورة المحافظة على حدود العلاقة العلاجية و الإحساس بأنها ضيقة أو تحول دون الإستمتاع و الإبداع في العلاج.
7. محاولة المعالج الإلتقاء بالمتعالج خارج العيادة أو المستشفى.
8. عدم قدرة المعالج على مواجهة المتعالج الذي يتأخر في دفع مبالغ العلاج المطلوبة منه أو الذي يأخذ أشياء من العيادة أو يحاول إطالة الجلسات أو يطلب تلبية رغبات لا تنتهي
9. محاولة المعالج كسب إعجاب المتعالج بإستعراض حياته الشخصية
10. انشغال ذهن المعالج بالجنس عندما يكون مع المتعالج و الشعور بالإستثارة عند تخيل المتعالج أو قرب موعده
أ.د . عبدالله السبيعي