العلاج بالتفاؤل .. العلاج بالأمل
قبل عدة سنوات سافر الشاعر جيليت بيرجس إلي باريس, وكان غير مشهور, وخلال زيارته ذهب إلي محاضرة غيرت حياته فعلا, حيث بدأ المحاضر كلامه بأن طلب من الحضور أن يبتسموا ويتفاءلوا, وكان بيرجس يمر وقتها بأزمات عاصفة في حياته أعجزته عن التفاؤل أو الابتسام,
لكنه خلال تلك المحاضرة لم يستطع أن يمنع نفسه من التبسم, لأن طلب المحاضر فاجأ الجمهور, فابتسموا, وعمهم التفاؤل, وانتقلت العدوي إلي بيرجس, وقبل أن يدرك السبب شعر بأن حالته تحسنت فعلا, وفي اليوم التالي طالع صورة وجه مبتسم بإحدي المجلات فعلقه علي حائط غرفته, وكلما نظر إلي ذلك الوجه كان يبتسم بدوره, ثم بدأ يجمع صورا لأشخاص يبتسمون, فتجمع لديه ما يشبه الألبوم وذات يوم عرضه علي ممرضة فأخذت الألبوم إلي المستشفي وعرضته علي الاطباء والمرضي, فشعر كل من رآه بتحسن حقيقي.
الابتسامة الحقيقية أو النظر إلي الابتسامة يمنح المرء ما يسمي بطاقة الحياة لما تشتمل عليه من جمال وفوائد, فالابتسامة والتفاؤل لهما فوائد علاجية فعلية, وفي كتابه الجسد لا يكذب قال دياموند إن الابتسام والتفاؤل يساعدان علي تقوية الغدة الصعترية, التي تسهم في تقوية الجهاز المناعي للإنسان,
وعرف التفاؤل كعلاج لأوجاع الإنسان منذ القدم, وعرف الإنسان القديم أن للتفاؤل فوائد جمة في علاج ضغط الدم, والتنفس, وعمليات الهدم والبناء العضوية داخل الجسم, وصحة القلب, والجهاز الدوري, كما عرفت بعد ذلك فوائد أخري للتفاؤل, مثل تقوية جهاز المناعة, وزيادة استرخاء الجهاز العصبي, وزيادة إفراز هرمونات الاندروفين في المخ, وهي بمثابة الحارس الطبيعي المدافع عن الجسم ضد الألم, والتوتر, وكثير من الأزمات الجسمية والنفسية.
وقديما اعتاد الإغريق أخذ مرضاهم ومصابيهم إلي منازل ممثلي الكوميديا كجزء من إجراءات المساعدة في علاجهم, وكان الجراح هنري موندييفيل في القرون الوسطي يقول إن الجراح لا ينبغي له أن يهتم بعلاج الجسد فقط, بل بحياة المريض الكلية, ومقدار ما فيها من بهجة وسعادة, وكان يشدد علي مرضاه بضرورة الابتعاد عن الغضب والحزن والكراهية.
وأكد العالم وولتر كانون في ثلاثينيات القرن العشرين علي التأثير السلبي للضغوط النفسية, فعندما يواجه الكائن الحي موقفا خطيرا تفرز الغدة الادرينالية هرمونات مثل الايبنيفرين والنوريبنيفرين, تسبب بدورها حالة عدم توازن لأجهزة الكائن الحي الفسيولوجية, فيصبح محتشدا بالطاقة, وربما يدفعه هذا للاشتراك في نشاط وقتال ومواجهة للخطر, أو يهرب من الموقف المهدد له, وأطلق علي هذه المجموعة من الأمراض اسم زملة أعراض القتال/ الهرب, وهي الزملة التي تدفع الكائن إلي توجيه وتحريك الطاقات التي تولدت بداخله نتيجة لافراز هرمونات الادرينالين بالطريقة التي يراها مناسبة, ويزداد ظهور هذه الأعراض عندما يتعرض الكائن للبرودة الشديدة أو الحرارة الشديدة أو أشعة إكس, أو الضوضاء أو الألم الجسمي, أو النزيف, وعند قيامه بجهد عضلي شاق, وعلي نحو جوهري عندما يتعرض لمواقف وظروف ضاغطة ومسببة للضيق, كالقلق, والبطالة, والطرد من العمل, والظروف المادية, والاجتماعية, والنفسية, والبيئية السيئة, والهزائم الحربية وخسارة المال في البورصة, وعندما يوجد الأفراد في مثل هذه الظروف, تفرز مادة الجلوكوز, وكذلك الأشكال البسيطة من البروتينات والدهون من الخلايات الدهنية والكبد, وبعض العضلات من أجل تغذية تلك العضلات الضرورية للقيام باستجابة المواجهة القتال أو الهرب, ويتم توزيع الجلوكوز علي العضلات المهمة, هنا مصحوبا بزيادة في معدل ضربات القلب وضغط الدم وحركة التنفس.
ما أحوجنا الآن في ظروفنا الراهنة, إلي أن نتسلح بالأمل, والتفاؤل, بالاستبشار, والإقبال علي الحياة, والتفاؤل بالطبع لا يخفض أسباب الضغوط النفسية, لكنه يخفض عملية الشعور بها, وقد يساعد الإنسان علي تجاوز أزمة مؤقتة, لو استسلم لها ربما تؤدي لآثار صحية سلبية, وتفاقم الشعور بالضغط, وأظهرت دراسات حديثة أن الاسترخاء الفسيولوجي, وخفض التوتر العضلي الذي يحدث عقب التفاؤل له تأثير تطهيري, يماثل في أثره تدريبات الاسترخاء العضلي, فعندما نتفاءل تكون الاستجابة الأولية للجسم هي تقلص عضلات الصدر والبطن وزيادة في ضغط الدم, ويزداد معدل النبض ويفرز هرمون الادرينالين في مجري الدم, ثم تحدث فترة من الاسترخاء ينخفض بعدها ضغط الدم والنبض إلي المستويات الطبيعية, وقد تستمر فترة الاسترخاء هذه في الجهاز الدوري نحو45 دقيقة أو أكثر بعد التفاؤل. لقد أنجزت مصر خلال ستة أشهر تقريبا ما لم تنجزه خلال آلاف السنين, لقد أسقطت حائط الخوف الكثيف الذي كان يشل حركة أبنائها, ويجمد طاقاتهم الإنسانية والإبداعية, فلم تعد هناك الآن, سلطة فوق سلطة القانون, ولا عاطفة تعلو فوق محبة الوطن, بعد اقتلاع غابة التسلط والدكتاتورية من جذورها, فاصبحت المدة التي يمكن أن يظل فيها أي رئيس مقبل لمصر محدودة ومحددة, وتجري الآن جهود ملموسة لتطوير الاقتصاد والتعليم والإعلام والسياحة والثقافة وغيرها, وإن بدت بطيئة, لكنها تبعث علي التفاؤل والأمل, حيث يحتاج شعبنا بعد كل هذه السنوات من الحرمان والإبعاد والتجاهل أن يفرح, يبتهج, وأن يكون مفعما بالأمل, أن يقبل علي الحياة لا علي الموت, علي المستقبل لا علي الماضي.
لقد استيقظ العملاق من غفوته, ونهض من كبوته, وتعافي مما لحق به من أمراض, وبقي أن نقوي جهاز مناعته, بالإيمان, والعمل, والأمل, وسعة الأفق والتسامح والإبداع, فما أحوجنا لاشاعة التفاؤل والإبتسام والأمل والفرح بيننا.
ويروي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال: تبسمك في وجه أخيك صدقة كما أن معاني الضحك في التراث العربي قد تعني: هطول المطر, وظهور النبات والزهر من الأرض,. وقال الفيلسوف الألماني الشهير نيتشه ذات مرة يا أيها الإنسان الأعلي, تعلم كيف تضحك ونقول معه أيضا: يا أيها الإنسان المصري, أيها الإنسان العربي, تعلم كيف تبتسم ثانية, وتضحك, وتتفاءل, وتعلو علي أزماتك, وتصعد نحو المجد مرة أخري.
- - - - -
* أستاذ علم النفس - مصر
المصدر : جريدة الأهرام المصرية
أ.د شاكر عبد الحميد