كيف تتقبل ذاتك

كاتب المقال: الإدارة
التاريخ: الأربعاء, يونيو 3, 2015 - 18:22

تقبل الذات .. بصورة عامة .. يعني : تقبل الذات !!
وهو من المفاهيم العميقة التي ابتذلت من فرط الاستخدام .
ويمكن أن يوصف بأنه : فهم الذات بإنصاف ، ثم التعاطف معها بمحبة ، ثم البدء في الارتقاء بها .
وهو تعريف يسعى إلى تحديد خطوات المفهوم : الفهم ، التعاطف ، الرقي .

 

ماذا يجري إذا لم تسع إلى تقبل ذاتك :

قبل الحديث عن تقبل الذات وما يمنحه للإنسان من فرص خلاقة للحياة ، ينبغي أن نرى الصورة الأخرى .. ماذا لو لم يتقبل الإنسان نفسه ؟!
إذا لم يتقبل الإنسان نفسه ، يكون مسرحاً لكل الآليات الدفاعية اللاشعورية ، وغير السوية ، مثل:

  • الكبت :طرد الأفكار المؤلمة من الوعي إلى اللاوعي ، وتناسي وجودها .
  • الإنكار : رفض الواقع المؤلم وإنكار حدوثه ، كالذي يغطي عينيه بيديه إذا رأى ما سيؤذيه (حادث ، أو ضرب .. الخ) .
  • التكوين العكسي : كبت الرغبة السيئة وإظهار نقيضها الحسن ، كالذي يكبت كراهيته لشخص ويظهر حبه .
  • الإسقاط : أنسب رغباتي غير المقبولة إلى الآخرين لأبرئ نفسي منها دون أشعر بذلك. كما ننسب إلى الآخرين أنهم سبب مشكلاتنا دون أن ننظر إلى الأسباب الحقيقية التي نتجت عن سلوكنا نحن.
  • الإزاحة : بأن أزيح الانفعال عن الموضوع المقلق إلى غيره ، كالذي يظلمه مديره فيزيح انفعاله إلى زوجته في البيت .
  • التبرير : باختراع أعذار منطقية الظاهر للمشكلات الخاصة . ( كالثعلب حين لم يقدر على أخذ العنب فقال : أنت حامض) .
  • النكوص : بالعودة إلى سلوكيات تناسب مراحل سابقة في النمو ( كالرجل الراشد حين يستجيب لبعض المواقف باستجابات طفلية ) .
  • الإدماج : استدخال قيم الآخرين إلى الذات ، وهي ضرورية للنمو ، ولكن حدوثها دون ضابط يجعل الإنسان عرضةً لاستدماج ما يضره وما ينفعه .. وهنا نجدنا أمام شخصية " الإمعة " .
  • التعويض : وينشأ من الشعور بالنقص ، والبحث عن تعويض يصرف الناس عن التنبه إلى نقصه. كالذي يشعر بدمامته فيبالغ في التزين ، أو جهله فيبالغ في ادعاء المعرفة ومراكمة الشهادات.
ومن الضروري التنبه إلى أن هذه الآليات النفسية تحدث لنا جميعاً على مستوى اللاشعور ، فلا نكون واعين بها ، ولو حاول شخص أن يشرح لك ما يجري منك لخالفته في ذلك بشدة ، لأنك " لا تشعر " به ، فأنت كالذي يحركه عقله الباطن دون أن يعي . وهذه الآليات أساس في غالب الاضطرابات النفسية .
وستظل هذه الآليات هي الحاكمة على سلوك الفرد ما لم يبدأ مسيرة : تفهم الذات .. ثم تقبلها .
مع هذه الآليات غير الشعورية ؛ يمكن أن نجد سلوكيات شعورية مدمرة للذات ، كالعدوانية ، والغضب .

رحلة تقبل الذات :

نحن نبدأ تقبل أو رفض ذواتنا من خلال استدخالنا لطرق تعامل " الآخر معنا " .. والذات لا تعي نفسها إلا من خلال " آخر " .
وأول " آخر " تتعامل معه " الأم " ، فهي التي تظل تنظر إليها ، وتنتظر مداعبتها (بصورة سلبية) ثم يتطور بك الأمر فتداعبها أنت (بصورة إيجابية) ، وتظل تنتظر منها " الاعتراف بك " و " محبتك " .
والطفل حين يرضع اللبن ، يرضع معه " قبول ذاته ، أو رفضها " .
ولهذا فقبول الأم للطفل أول حجر في بناء تقبل الذات.
في المرحلة التالي يأتي دور الأب : الرجل المهيب الذي يشعر الطفل أنه أقوى المحيطين به ، لأنه يرى الآخرين يأتمرون بأمره ، ويبدأ الطفل في التقرب إلى أبيه طلباً " لمحبته واعترافه به " ويتطلب الاعتراف بالطفل أن يمتثل للقوانين والمعايير التي يأمر بها الأب ( ومن هنا يبدأ دور التنشئة الاجتماعية ، واستدخال المعايير الثقافية للحصول على تقدير أعلى للذات ) .
في المراحل التالية يطلب الطفل التقدير والتقبل من إخوته ، ورفاقه ، وأساتذته ، ومجتمعه .. غير أن هؤلاء جميعاً يرتكزون على التقبل الأول : من الأم والأب . ولذا ينبغي أن يتنبه الوالدان إلى أن ما يقولونه للأبناء ويمارسونه معهم في الطفولة يحدد لبنات أساسية لاحترام الأبناء لذواتهم وتقبلهم لأنفسهم .
ولكن هذا لا يعني أنك إن نشأت في بيئة أسرية ضعيفة التقبل ستظل طيلة عمرك رافضاً لذاتك !! بل سينتقل مركز الضبط من "الوالدين " إليك أنت ، وستكون - بما اكتسبت من خبرة ومعرفة ونضج - قادراً على مراجعة نفسك ، ومنحها ما تستحق من تقبل وتقدير .

عناصر تقبل الذات :

الفهم :

• تعرف على نفسك دون تشوهات في الإدراك ، وهذا يعني الإنصات للذات ، وحسن الاستماع إلى أفكارك .
• لست مطالباً في هذه المرحلة بتقديم البدائل ، وإنما يكفيك أن تتعرف إلى نفسك بصورة أقرب إلى الصحة .
• اعرف : إيجابياتك ، وسلبياتك ، والمواقف المؤثرة في حياتك .
• ركز على مواطن القوة فيك .
• ابحث عن البيئة المعززة لمواطن القوة .

القبول :

• بعد معرفة نفسك ، اقبلها كما هي . وهي المرحلة الأصعب ، لأن التقبل يعني: الاعتراف بالحقائق عن نفسك دون أن تدينها وتحكم عليها .
• الكثير يحاول الارتقاء بنفسه قبل أن يقبلها .
• قبول الذات ، لا يعني الرضا بما هي عليه ، وإنما تقبله رغم نقصه .

الصفح :

• تب عن أخطائك ، واجعل تذكرك لها دافعاً للرقي لا اليأس .
• وهو مبني على العنصرين السابقين : الفهم ، والتقبل .

الناقد المرضي pathological critic :

مصطلح وضعه العالم النفسي أوجين ساجان لوصف الصوت الداخلي السلبي الذي يقوم بمهاجمتك وإصدار الأحكام عليك ، وهذا الناقد اللاعقلاني يكون أعلى صوتاً وأكثر قسوة . يلومك ، ويقارنك بالآخرين ليقلل من شأنك ، ويعنفك على أصغر الأخطاء ، ويرسم لك صورة للحياة التي يجب أن تكون عليها ليشعرك بنقص واقعك ، يخبرك أنك يجب أن تكون الأفضل فإذا فشلت في ذلك فأنت لا شيء . وهو يحاربك بترسانة من الواجبات لابد أن تقوم بها جميعاً ، ولا يحق لك الفشل أو التراخي في شيء منها .
شغله الشاغل أن يضعف تقديرك لذاتك . وهو يتغلغل إليك دون أن تتنبه إلى تأثيره ، ويحاول أن يجعل أحكامه عليك منطقية ومبررة . والمشكلة أنك تصدقه في أغلب الأحيان.

نشأة الناقد المرضي :

وينشأ الناقد المرضي من تجارب الطفل الأولى مع والديه ، لا سيما إذا فشل الآباء في التفريق بين " الذات ، والسلوك " ، فهو يرفض السلوك ، ويشعر الطفل أنه قد رفض ذاته ، فيستدخل في نفسه قوانين والديه ويتوحد معها ، ويرفض نفسه لظنه أنهم يرفضونه .
كما ينشأ من عدم اتساق الوالدين في القواعد والوصايا الأخلاقية التي يأمرونه بها ، مما يوصل إليه رسائل متعارضة .

مدعمات الناقد المرضي :

لاحظ أنك تدعم ناقدك المرضي لأنك تريد أن تشعر أنك مقبول من والديك وبدلائهما ، والناقد المرضي هو وريث كثير من نصائحهم . كما يساعدك ناقدك المرضي في الشعور بالإنجاز لأنه بتوبيخه الدائم لك يحفزك - وإن كان بصورة مرضية - على العمل والإنجاز . ولكنه يشعرك أيضاً بقلة القيمة ، ويجعلك تخاف من الفشل طيلة الوقت ، وتخشى الرفض من الآخرين لأنك تشعر في الأصل برفض الذات ، كما يصاعد من شعورك بالغضب من الآخرين ، كتصريف لاشعوري لغضبك من نفسك ، ويزيد من شعورك بالذنب لأنه يشعرك دائماً بأنك مخطئ .
وفي نهاية المطاف تجد نفسك محبطاً في الغالب ، لأنك لا تكاد تشعر بالنجاح والإنجاز إلا ويتلوه شعور بالذنب والتقصير .

تمارين للتعامل مع الناقد المرضي :

  • تدرب على رصد ناقدك المرضي في لحظات يومك المختلفة ، واحمل مفكرة لهذا الغرض تسجل فيها اللحظات والمواقف التي شعرت فيها بحديث ناقدك المرضي معك . والتدريب على رصد ناقدك المرضي يزيد من وعيك به وحساسيتك له ، وهي الخطوة الأولى للعلاج من آثاره
  • ابحث عن أغراض ناقدك المرضي ودوافعه الخفية ، وهذه المرحلة تحتاج إلى مزيد من التركيز والدقة ، والصبر .
  • رد على ناقدك بعقلانية بالبدائل الصحيحة .
  • اجعل ناقدك المرضي عديم الفائدة ، وذلك بتلبيتك للرغبات الحقيقية لك ، والتي استثمرها الناقد المرضي في إيذائك ببدائل صحيحة تحقق هذه الرغبات .
    التعاطف مع الماضي :
    • اختر حدثاً من الماضي يستغله ناقدك المرضي .
    • ابدأ في تذكر الحدث وأنت مسترخٍ ، تذكره بتفاصيله الكاملة ، بالوانه وروائحه وأصواته ، ثم توقف وسل نفسك : ما هي الحاجة التي كنت أحاول إشباعها ؟
    • ما الذي كنت أفكر فيه في ذلك الموقف ؟
    • ما نوع المعاناة أو الشعور الذي كان يؤثر عليَّ ؟
    • بعد أن تستحضر الماضي بعمق ، وتجيب عن هذه التساؤلات بدقة ، سامح نفسك عليه ، وانتقل منه إلى المستقبل .

استثمار التخيل في زيادة تقدير الذات :

• وأنت في حالة استرخاء ( يحتاج الأمر إلى شرح مبسط عن الاسترخاء ) تخيل لحظات كانت مؤلمة لك ، وأعد النظر إليها بصورة أكثر تسامحاً .
• وأنت في حالة استرخاء تخيل مستقبلك كما تحب أن يكون ، اشعر به ، عش فيه ، وفكر كما لو كان قد حدث .

نماذج من تقبل الذات :

• قول يوسف عليه السلام " اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم " .
• قال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنا سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ، وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع} .
• قال رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم} .
قال عمر بن عبد العزيز : إن لي نفساً تواقة ، لقد رأيتني وأنا بالمدينة غلام من الغلمان ، ثم تاقت نفسي إلى العلم ، إلى العربية و الشعر ، فأصبت منه حاجتي، وما كنت أريد ، ثم تاقت نفسي في السلطان ، فاستعملت على المدينة. ثم تاقت وأنا في السلطان ، إلى اللبس و العيش و الطيب ، فما علمت أن أحداً من أهل بيتي ، ولا غيرهم ، كان مثل ما كنت فيه . ثم تاقت نفي إلى الآخرة والعمل بالعدل ، فأنا أرجو ما تاقت إليه نفسي من أمر آخرتي ، فلست بالذي أهلك آخرتي بدنياهم .

كيف تنشئ طفلاً أكثر تقبلاً لذاته :

• أول ما ينبغي إدراكه أن حاجة الطفل إلى الحب والتقدير ليست أقل من حاجته إلى الغذاء .
• كثير من مشاكل التقبل في المستقبل ناشئة عن سوء تقبل الوالدين للطفل .

تجنب هذه الأساليب :

  • القسوة والإيذاء الجسدي ، لا سيما إذا كانت ناتجةً عن تحويل " خطأ الطفل " إلى " جريمة " ، ثم عقابه بعقاب لا يتناسب مع حجمها ، ولا يدرك الطفل منه أكثر من الانتقام .
  • السيطرة وفرض الرأي والتحكم دون تعويد الطفل على ذكر الأسباب والمناقشة العقلية .
  • النبذ : بإيصال رسالة إلى الطفل مفادها "لست محبوبا ولا مرغوبا فيك " وقد يأخذ شكل "التقبل المشروط" حيث لا يعطى الطفل الحب والاهتمام والرضى إلا إذا سلك وفق ما يرغبه الوالدان فقط ، وهو من أكثر الأساليب شيوعاً وكأنما الأمر أصبح مقايضة بين الوالدين والطفل : "تصرف كيفما نريد وإلا سننبذك ونحرمك".
  • المقارنة بالآخرين بغرض الحط من شأنه .
  • التفرقة بينه وبين إخوته .
  • التساهل في المعايير والقيم معه .
  • الحماية الزائدة والتدليل .

اتبع هذه الوسائل في التربية :

  • استمع جيداً ، وبإنصات حقيقي ، لأبنائك .. مهما كانوا صغاراً ، وعود نفسك على سماعهم قبل الحكم عليهم .
  • أفش ثقافة الحوار في بيتك بين الجميع ، وعودهم على البحث عن الأسباب العقلية للقرارات المتخذة .
  • لتقبل غير المشروط للأبناء : ولا يعني ذلك السكوت عن الخطأ ، وإنما التفرقة بين " الذات " و " السلوك " فالذات مقبولة على كل حال ، والسلوك يعالج بحسب صحته أو خطئه ، ولا يعني " تعديل السلوك " " رفض الذات .
  • لطفل يصاب بالتخمة من كثرة الطعام ، ولكنه لا يصاب بالتخمة من زيادة الحب !! أفض على أبنائك من مظاهر الحب بما تستطيع.
  • راع الفروق الفردية بين أبنائك ، ولا تحمل شخصاً منهم على طبيعة شخص آخر .
  • تحمل انفعالات أبنائهم ونواقصهم المرحلية ، ولا تحاسبهم بأعلى مما يستطيعون تقديمه .
  • فَعِِّل إمكانات أبنائك برفق ، من خلال توفير البيئة الملائمة للإبداع .
  • استخدم التعزيز الإيجابي للسلوك المحبب ، وتعود على مدحهم إن أحسنوا ، والتنبيه إلى " خطأ سلوكهم " إن أساءوا .

 

 

د. محمد محمد فريد

سجل دخول أو إنشئ حساب جديد الأن لإضافة تعليق.